فأعرضوا أي عن الشكر كما يقتضيه المقام ويدخل فيه الإعراض عن الإيمان لأنه أعظم الكفر والكفران، وقال : أعرضوا عما جاء به إليهم أنبياؤهم الثلاثة عشر حيث دعوهم إلى الله تعالى وذكروهم نعمه سبحانه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله نعمة. أبو حيان
فأرسلنا عليهم سيل العرم أي الصعب من عرم الرجل، مثلث الراء فهو عارم وعرم إذا شرس خلقه وصعب، وفي معناه ما جاء في رواية عن من تفسيره بالشديد، وإضافة السيل إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة، ومن أباها من النحاة قال التقدير (سيل الأمر العرم). ابن عباس
وقيل: العرم المطر الشديد والإضافة على ظاهرها، وقيل: هو اسم للجرذ الذي نقب عليهم سدهم فصار سببا لتسلط السيل عليهم وهو الفار الأعمى الذي يقال له الخلد، وإضافة السيل إليه لأدنى ملابسة، وقال : العرم المسناة بلسان الحبشة، وقال ابن جبير ، هو بهذا المعنى عربي، وقال الأخفش المغيرة بن حكيم وأبو ميسرة : العرم في لغة اليمن جمع عرمة وهي كل ما بني أو سنم ليمسك الماء، ويقال لذلك البناء بلغة الحجاز المسناة، والإضافة كما في سابقه والملابسة في هذا أقوى، وعن ابن عباس وقتادة والضحاك هو اسم الوادي الذي كان يأتي السيل منه وبني السد فيه، ووجه إضافة السيل إليه ظاهر، وقرأ ومقاتل عزرة بن الورد فيما حكى ابن خالويه «العرم» بإسكان الراء تخفيفا كقولهم في الكبد الكبد.
روي أن بلقيس لما ملكت اقتتل قومها على ماء واديهم فتركت ملكها وسكنت قصرها وراودوها على أن ترجع فأبت، فقالوا: لترجعن أو لنقتلنك فقالت لهم: أنتم لا عقول لكم ولا تطيعوني، فقالوا: نطيعك فرجعت إلى واديهم، وكانوا إذا مطروا أتاهم السيل من مسيرة ثلاثة أيام فأمرت فسد ما بين الجبلين بمسناة بالصخر والقار وحبست الماء من وراء السد وجعلت له أبوابا بعضها فوق بعض وبنت من دونه بركة منها اثنا عشر مخرجا على عدة أنهارهم، وكان الماء يخرج لهم بالسوية إلى أن كان من شأنها مع سليمان عليه السلام ما كان.
وقيل: الذي بنى لهم السد هو حمير أبو القبائل اليمنية، وقيل بناه لقمان الأكبر بن عاد ورصف أحجاره بالرصاص والحديد وكان فرسخا في فرسخ، ولم يزالوا في أرغد عيش وأخصب أرض حتى أن المرأة تخرج وعلى رأسها [ ص: 127 ] المكتل فتعمل بيديها وتسير فيمتلئ المكتل مما يتساقط من أشجار بساتينهم إلى أن أعرضوا عن الشكر وكذبوا الأنبياء عليهم السلام فسلط الله تعالى على سدهم الخلد فوالد فيه فخرقه فأرسل سبحانه سيلا عظيما فحمل السد وذهب بالجنان وكثير من الناس، وقيل إنه أذهب السد فاختل أمر قسمة الماء ووصوله إلى جنانهم فيبست وهلكت، وكان ذلك السيل على ما قيل في ملك ذي الأذعار بن حسان في الفترة بين نبينا صلى الله عليه وسلم عليه السلام، وفيه بحث على تقدير القول بأن الإعراض كان عما جاءهم من أنبيائهم الثلاثة عشر كما ستعلمه إن شاء الله تعالى عن قريب. وعيسى
وبدلناهم بجنتيهم أي أذهبنا جنتيهم وأتينا بدلها جنتين ذواتي أكل أي ثمر خمط أي حامض أو مر، وعن الخمط الأراك، ويقال لثمره مطلقا أو إذا اسود وبلغ البربر، وقيل شجر الغضا ولا أعلم هل له ثمر أم لا، وقال ابن عباس : كل شجرة مرة ذات شوك، وقال أبو عبيدة ابن الأعرابي : هو ثمر شجرة على صورة الخشخاش لا ينتفع به وتسمى تلك الشجرة على ما قيل بفسوة الضبع، وهو على الأول صفة لأكل والأمر في ذلك ظاهر، وعلى الأخير عطف بيان على مذهب الكوفيين المجوزين له في النكرات، وقيل بدل وعلى ما بينهما الكلام على حذف مضاف أي أكل أكل خمط، وذلك المضاف بدل من أكل أو عطف بيان عليه، ولما حذف أقيم المضاف إليه مقامه وأعرب بإعرابه كما في البحر، وقيل هو بتقدير أكل ذي خمط، وقيل هو بدل من باب يعجبني القمر فلكه وهو كما ترى، ومنع جعله وصفا من غير ضرب من التأويل لأن الثمر لا يوصف بالشجر لا لأن الوصف بالأسماء الجامدة لا يطرد، وإن جاء منه شيء نحو مررت بقاع عرفج، فتأمل.
وقرأ «أكل خمط» بالإضافة وهو من باب (ثوب خز)، وقرأ أبو عمرو «أكل» بسكون الكاف والتنوين. ابن كثير
وأثل ضرب من الطرفاء على ما قاله أبو حنيفة اللغوي في كتاب النبات له، وعن تفسيره بالطرفاء، ونقل ابن عباس الطبرسي قولا أنه السمر وهو عطف على ( أكل ) ولم يجوز عطفه على الزمخشري خمط معللا بأن الأثل لا ثمر له، والأطباء كداود الأنطاكي وغيره يذكرون له ثمرا كالحمص ينكسر عن حب صغار ملتصق بعضه ببعض ويفسرون الأثل بالعظيم من الطرفاء ويقولون في الطرفاء هو بري لا ثمر له وبستاني له ثمر لكن قال الخفاجي : لا يعتمد على الكتب الطبية في مثل ذلك وفي القلب منه شيء، ونحن قد حققنا أن للأثل ثمرا. وكذا لصنف من الطرفاء إلا أن ثمرهما لا يؤكل ولعل مراد النافي نفي ثمرة تؤكل، والأطباء يعدون ما تخرجه الشجر غير الورق ونحوه ثمرة أكلت أم لا، ومثله في العطف على ذلك في قوله تعالى: وشيء من سدر قليل وحكى الفضيل بن إبراهيم أنه قرئ «أثلا وشيئا» بالنصب عطفا على جنتين .
والسدر شجر النبق، وقال : السدر سدران سدر لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمرة عفصة لا تؤكل وهو الذي يسمى الضال وسدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقه غسول يشبه شجر العناب انتهى. واختلف في المراد هنا فقيل الثاني، ووصف بقليل لفظا ومعنى أو معنى فقط، وذلك إذا كان نعتا لشيء المبين به، لأن ثمره مما يطيب أكله فجعل قليلا فيما بدلوا به لأنه لو كثر كان نعمة لا نقمة، وإنما أوتوه تذكيرا للنعم الزائلة لتكون حسرة عليهم، وقيل المراد به الأول حتما لأنه الأنسب بالمقام، ولم يذكر نكتة الوصف بالقليل عليه. الأزهري
ويمكن أن يقال في الوصف به مطلقا إن السدر له شأن عند العرب ولذا نص الله تعالى على وجوده في الجنة [ ص: 128 ] والبستاني منه لا يخفى نفعه، والبري يستظل به أبناء السبيل ويأنسون به، ولهم فيه منافع أخرى ويستأنس لعلو شأنه بما أخرجه في سننه أبو داود في المختارة عن والضياء عبد الله بن حبشي قال: وبما أخرجه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار. عن البيهقي قال: أبي جعفر «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كرم الله تعالى وجهه في مرض موته: اخرج يا لعلي فقل عن الله لا عن رسول الله لعن الله من يقطع السدر». علي
وفي معناهما عدة أخبار لها عدة طرق، والكل فيما أرى محمول على ما إذا كان القطع عبثا، ولو كان السدر في ملكه، وقيل في ذلك مخصوص بسدر المدينة ، وإنما نهي عن قطعه ليكون إنسا وظلا لمن يهاجر إليها، وقيل بسدر الفلاة ليستظل به أبناء السبيل والحيوان، وقيل بسدر مكة لأنها حرم، وقيل بما إذا كان في ملك الغير وكان القطع بغير حق، والكل كما ترى، وأيا ما كان ففي التنصيص عليه ما يشير إلى أن له شأنا فلما ذكر سبحانه ما آل إليه حال أولئك المعرضين وما بدلوا بجنتيهم أتى جل وعلا بما يتضمن الإيذان بحقارة ما عوضوا به وهو مما له شأن عند العرب أعني السدر وقلته، والإيذان بالقلة ظاهر، وأما الإيذان بالحقارة فمن ذكر شيء والعدول عن أن يقال (وسدر قليل) مع أنه الأخصر الأوفق بما قبله ففيه إشارة إلى غاية انعكاس الحال حيث أومأ الكلام إلى أنهم لم يؤتوا بعد إذهاب جنتيهم شيئا مما لجنسه شأن عند العرب إلا السدر وما أوتوه من هذا الجنس حقير قليل، وتسمية البدل جنتين مع أنه ما سمعت للمشاكلة والتهكم.