قوله تعالى: قل سيروا إلخ لأن المخاطبين فيها هم المخاطبون أولا، يعني إن كانت الرؤية علمية فالأمر بالسير والنظر لا يناسب لمن حصل له العلم بكيفية الخلق، والقول بأن الأول دليل أنفسي، والثاني آفاقي مخالف للظاهر من وجوه اهـ فتدبر، ولعل الأظهر والأبعد عن القيل والقال في نظم الآيات ما نقلناه عن بعض المحققين.
وقرأ الزبيري وعيسى بخلاف عنه كيف يبدأ على أنه مضارع بدأ الثلاثي مع إبدال الهمزة ألفا كما ذكره وأبو عمرو الهمداني، وقوله تعالى: ثم يعيده عطف على أولم يروا لا على يبدئ لأن الرؤية إن كانت بصرية فهي واقعة على الإبداء دون الإعادة فلو عطف عليه لم يصح وكذا إذا كانت علمية لأن المقصود الاستدلال بما علموه من أحوال المبدأ على المعاد لإثباته فلو كان معلوما لهم كان تحصيلا للحاصل.
وجوز العطف عليه بتأويل الإعادة بإنشائه تعالى كل سنة مثل ما أنشأه سبحانه في السنة السابقة من النبات والثمار وغيرهما فإن ذلك مما يستدل به على صحة البعث ووقوعه على ما قيل من غير ريب، وعن أن الخلق هنا الليل والنهار وليس بشيء مقاتل إن ذلك أي ما ذكر من الإعادة، وجوز أن يكون المشار إليه ما ذكر من الأمرين على الله يسير إذ لا يحتاج فعله تعالى إلى شيء خارج عن ذاته عز وجل.
قل سيروا في الأرض أمر لإبراهيم عليه السلام أن يقول لقومه ذلك عند بعض المحققين، وكذا جعله من جعل جميع ما تقدم من قصة إبراهيم عليه السلام، ومن جعل قوله تعالى: وإن تكذبوا إلى قوله تعالى: فما كان جواب قومه اعتراضا جعل هذا أمرا لنبينا صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لقريش.
وجوز أن يجعل نظم الآيات السابقة على ما نقل عن بعض المحققين ويجعل هذا أمرا للنبي عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك لهم فإنهم مثل قوم إبراهيم عليه السلام والأمم الذين من قبلهم في التكذيب بالبعث والإنكار له، وما في حيز هذا القول متضمن ما يدل على صحته، وعدم اتحاده مع ما سبق لا يضر. وأيا ما كان فإضافة الرحمة إلى ضمير المتكلم فيما يأتي إن شاء الله تعالى لما أن ذلك حكاية كلامه عز وجل على وجهه ومثله في القرآن الكريم كثير، والسير كما قال المضي في الأرض، وعليه يكون في الآية تجريد، والظاهر أن المراد به المضي بالجسم، وجوز أن يراد به إجالة الفكر. وحمل على ذلك فيما يروى في وصف الأنبياء عليهم السلام أبدانهم في الأرض سائرة وقلوبهم في الملكوت جائلة، ومنهم من حمل ذلك على الجد في العبادة المتوصل [ ص: 147 ] بها إلى الثواب، والمعنى على ما قلنا أولا امضوا في الأرض وسيحوا فيها الراغب: فانظروا كيف بدأ الله تعالى الخلق أي كيف خلقهم ابتداء على أطوار مختلفة وطبائع متغايرة وأخلاق شتى، فإن ترتيب النظر على السير في الأرض مؤذن بتتبع أحوال أصناف الخلق القاطنين في أقطارها، وعلى هذا تتغاير الكيفية في الآية السابقة والكيفية في هذه الآية لما أن الأولى كما علمت باعتبار المادة وعدمها وهذه باعتبار تغاير الأحوال. ولعل التعبير في الآية الأولى بالمضارع أعني يبدئ دون الماضي كما هنا لاستحضار الصورة الماضية لما أن بدء الخلق من مادة وغيرها أغرب من بدء الخلق على أطوار مختلفة على معنى أن خلق الأشياء أغرب من جعل أطوارها مختلفة، وأنت إذا لاحظت أن خلق الأشياء يعود في الآخرة إلى إيجادها من كتم العدم من غير سبق مادة دفعا للتسلسل وأن جعل أطوارها مختلفة إنما هو بعد سبق المادة ولو سبقا ذاتيا وهو ما قام به الاختلاف أعني ذوات الأشياء لا تشك في أن الأول أغرب من الثاني، ولذا ترى التمدح بأصل الخلق في القرآن العظيم أكثر من التمدح بالجعل المذكور. وقد وافق الصيغة في الإشعار بالغرابة بناء الفعل من باب الإفعال فإنه غير مستعمل ولذا قالوا: إنه مخل بالفصاحة لولا وقوعه مع (يعيد، ومما يقرب من هذا السر ما قيل في وجه حذف الياء من يسر في قوله تعالى: والليل إذا يسر [الفجر: 4] من أن ذلك لأن الليل يسرى فيه لا يسري أي ليدل مخالفة الظاهر في اللفظ على مخالفته في المعنى وهو معنى دقيق. وقيل في وجه التعبير بما ذكر إفادة الاستمرار التجددي وهو بناء على المعنى الثاني في الآية. وقال بعضهم في تغاير الدليلين: إن هذا عيني وذلك علمي أو هذا آفاقي والأول أنفسي وقرأ «كيف بدأ الخلق» بتخفيف الهمزة بإبدالها ألفا ثم حذفها في الوصل. قال الزهري وهو تخفيف غير قياسي كما قال: فارعي فزارة لا هناك المرتع، وقياس تخفيف هذا التسهيل بين بين أبو حيان: ثم الله ينشئ النشأة الآخرة أي بعد النشأة الأولى التي شاهدتموها والنشأة الإيجاد والخلق، والتعبير عن الإعادة التي هي محل النزاع بالنشأة الآخرة المشعرة بكون البدء نشأة أولى للتنبيه على أنهما شأن واحد من شؤون الله تعالى حقيقة واسما من حيث إن (كلا) منهما اختراع وإخراج من العدم إلى الوجود ولا فرق بينهما إلا بالأولية والأخروية كذا قيل.
والظاهر أنه مبني على أن الجسد يعدم بالكلية ثم يعاد خلقا جديدا لا أنه تتفرق أجزاؤه ثم تجمع بعد تفرقها وإلى كل ذهب بعض، والأدلة متعارضة، والمسألة كما قال ابن الهمام عند المحققين ظنية، وفي كتاب الاقتصاد في الاعتقاد لحجة الإسلام فإن قيل: فما تقولون أتعدم الجواهر والأعراض ثم تعادان جميعا أو تعدم الأعراض دون الجواهر وإنما تعاد الأعراض؟ قلنا: كل ذلك ممكن ولكن ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات انتهى، وذهب ابن الهمام إلى أن الحق وقوع الكيفيتين إعادة ما انعدم بعينه وتأليف ما تفرق من الأجزاء، وقد يقال: إن بدء الإنسان ونحوه ليس اختراعا محضا وإخراجا من كتم العدم إلى الوجود في الحقيقة لما أنه مخلوق من التراب وسائر العناصر، والظاهر أن فناءه ليس عبارة عن صيرورته عدما محضا بل هو عبارة عن انحلاله إلى ما تركب منه ورجوع كل عنصر إلى عنصره. نعم لا شك في فناء بعض الأعراض وانعدامها بالكلية، وقد يستثنى منه بعض الأجزاء فلا ينحل إلى ما منه التركيب بل يبقى على ما كان عليه وهو عجب الذنب لظاهر حديث الصحيحين الغزالي، وتأويله بما أوله به ملا صدرا في أسفاره مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وحينئذ فالإعادة تكون بتركيب ما انحل من العناصر وضمه إلى هذا الجزء فلا تكون اختراعا محضا وإخراجا من كتم العدم إلى الوجود في الحقيقة، لكن لكل من البدء والإعادة شبه تام بالاختراع والإخراج المذكور، وبه يصح أن يقال لكل اختراع وإخراج من العدم إلى الوجود فلا تغفل، والجملة معطوفة على جملة «ليس شيء من الإنسان لا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب منه [ ص: 148 ] يركب الخلق يوم القيامة» سيروا في الأرض داخلة معها في حيز القول، ولا يضر تخالفهما خبرا وإنشاء فإنه جائز بعد القول وما له محل من الإعراب، ولا يصح عطفها على بدأ الخلق لأنها لا تصلح أن تكون موقعا للنظر أما إن كان بمعنى الإبصار فظاهر وأما إن كان بمعنى التفكر فلأن التفكر في الدليل لا في النتيجة، وإظهار الاسم الجليل وإيقاعه مبتدأ مع إضماره في بدأ لإبراز مزيد الاعتناء ببيان تحقق الإعادة بالإشارة إلى علة الحكم فإنه الاسم الجامع لصفات الكمال ونعوت الجلال وتكرير الإسناد ورد ما تقدم على مقتضى الظاهر فلا يحتاج للتوجيه وكون المراد منه ليس إثبات الإعادة لمن أنكرها فلذا لم ينسج على هذا المنوال غير مسلم، وقرأ أبو عمرو «النشاءة» بالمد وهما لغتان كالرأفة والرآفة والقصر أشهر، ومحلها النصب على أنها مصدر مؤكد لـ ينشئ بحذف الزوائد والأصل الإنشاءة أو بحذف العامل أي ينشئ فينشؤون النشأة الآخرة نحو وابن كثير أنبتكم من الأرض نباتا [نوح: 17] إن الله على كل شيء قدير تعليل لما قبله بطريق التحقيق فإن من علم قدرته عز وجل على جميع الممكنات التي من جملتها الإعادة لا يتصور أن يتردد في قدرته سبحانه عليها ولا في وقوعها بعد ما أخبر به، ثم اعلم أن أكثر المنكرين للبعث لا يقولون باستحالته كجمع النقيضين بل غاية ما عندهم استبعاده، والرد على هؤلاء بهذه الآيات ونحوها ظاهر لما فيها مما يزيل الاستبعاد من الإبداء الذي هو في الشاهد أشق من الإعادة، ومنهم من يقول باستحالته عقلا فلا يصلح متعلقا للقدرة، وهؤلاء هم القائلون باستحالة إعادة المعدوم، والرد عليهم بعد تسليم أن ما نحن فيه من إعادة المعدوم وليس من جمع المتفرق بإبطال ما استدلوا به على الاستحالة، وقد تكفلت الكتب الكلامية بذلك، وأما الرد عليهم بهذه الآيات ونحوها فلما فيها من الإشارة إلى تزييف أدلة الاستحالة فتدبر