وما كنت بجانب الطور إذ نادينا أي وقت ندائنا موسى إني أنا الله رب العالمين واستنبائنا إياه وإرسالنا له إلى فرعون ولكن رحمة من ربك أي ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر وغيره لرحمة كائنة منا لك وللناس.
وقيل أي علمناك رحمة ولعل الرحمة عليه مفعول ثان لعلم والمراد بها القرآن وليست مفعولا له والمفعول الثاني ما ذكر من القصة لما ستعرفه قريبا إن شاء الله تعالى، وأما جعلها منصوبة على المصدرية لفعل محذوف فحاله غني عن البيان والالتفات إلى اسم الرب للإشعار بأن ذلك من آثار الربوبية وتشريفه عليه الصلاة والسلام بالإضافة وقد اكتفى هاهنا عن ذكر المستدرك بذكر ما يوجبه من جهته تعالى كما اكتفى في الأول بذكر ما يوجبه من جهة الناس وصرح به فيما بينهما تنصيصا على ما هو المقصود وإشعارا بأنه المراد فيهما أيضا ولله تعالى در شأن التنزيل وقوله سبحانه: لتنذر قوما متعلق بالفعل المعلل بالرحمة وهو يستدعي أن يكون الإرسال بالقرآن أو ما في معناه كتعليم القرآن دون تعليم ما ذكر من القصة إذ لا يظهر حسن تعليله بالإنذار، وجوز أن يتعلق بالمستدركات الثلاث على التنازع.
وقرأ عيسى، وأبو حيوة «رحمة» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والتقدير ولكن هو أو هذا أو هي أو هذه رحمة والضمير أو الإشارة قيل للإرسال المفهوم من الكلام والتذكير والتأنيث باعتبار المرجع والخبر والخلاف في الأولى مشهور، وجوز أن يكون التقدير ولكن أنت رحمة ولتنذر على هذه القراءة متعلق بما هو صفة لـ رحمة وقوله جل وعلا: ما أبو حيان ما أتاهم من نذير من قبلك صفة لقوما (ومن) الأولى مزيدة للتأكيد وقوله تعالى: لعلهم يتذكرون 46) أي يتعظون بإنذارك تعليل للإنذار على القول بأن لعل للتعليل وأما على القول بأنها للترجي حقيقة أو مجازا فقيل هو في موضع الصفة بتقدير القول أي لتنذر قوما مقولا فيهم لعلهم يتذكرون والمراد بهؤلاء القوم قيل العرب، وظاهر الآية أنهم لم يبعث إليهم رسول قبل نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أصلا وليس بمراد للاتفاق على أن إسماعيل عليه السلام كان مرسلا إليهم وكأنه لتطاول الأمد بين بعثته عليه السلام وبعثة نبينا عليه الصلاة والسلام إذ بينهما أكثر من ألفي سنة بكثير واندراس شرعه وعدم وقوف [ ص: 88 ] الأكثرين في أغلب هذه المدة على حقيقته قيل: ذلك، وقيل: إن ذلك لما صرحوا به من أن حكم بعثة إسماعيل عليه السلام قد انقطع بموته وأنه لم يرسل إليهم بعده نبي سوى النبي صلى الله تعالى عليه (وسلم) قال العلامة ابن حجر في المنح المكية: من المقرر أن العرب لم يرسل إليهم رسول بعد إسماعيل عليه الصلاة والسلام وأن إسماعيل انتهت رسالته بموته وادعى قبيل هذا الاتفاق على أن إبراهيم عليه السلام ومن بعده أي سوى إسماعيل عليه السلام لم يرسلوا للعرب ورسالة إسماعيل إليهم انتهت بموته اهـ، فكأنه لقلة لبث إسماعيل عليه السلام فيهم وانقطاع حكم رسالته بعد وفاته فيما بينهم وبقائهم الأمد الطويل بغير رسول مبعوث فيهم نفي إتيان النذير إياهم من قبله صلى الله عليه وسلم.
وذكر العلامة ابن حجر في المنح أيضا ما يفيد أن كل رسول ممن عدا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم تنقطع رسالته بموته وليس ذلك خاصا بإسماعيل عليه السلام، ويفهم من كلام العز بن عبد السلام في أماليه أن هذا الانقطاع ليس على إطلاقه فقد قال: «فائدة» كل نبي إنما أرسل إلى قومه إلا سيدنا محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم فعلى هذا يكون ما عدا قوم كل نبي من أهل الفترة إلا ذرية النبي السابق عليه فإنهم مخاطبون ببعثة السابق إلا أن تدرس شريعة السابق فيصير الكل من أهل الفترة اهـ. وهو وكذا ما نقلناه عن العلامة ابن حجر عندي الآن على أعراف الرد والقبول، ولعل الله تعالى يشرح صدري بعد لتحقيق الحق في ذلك، وقيل: إن موسى، وعيسى عليهما السلام كما أرسلا لبني إسرائيل أرسلا للعرب فالمراد بنفي هذا الإتيان الفترة التي بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام، ومنها على ما روى عن البخاري رضي الله تعالى عنه ستمائة سنة وفي كثير من الكتب أنه خمسمائة وخمسون سنة، ونفي إتيان نبي بين زماني إتيان نبينا وإتيان سلمان الفارسي عيسى عليهما الصلاة والسلام هو ما صححه جمع من العلماء لحديث: عيسى. وقال بعضهم: إن بينهما أربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من لا نبي بيني وبين العرب وهو خالد بن سنان، وقيل: غير ذلك، واختار البعض أن المراد بهؤلاء القوم العرب المعاصرون له صلى الله تعالى عليه وسلم إذ هم الذين يتصور إنذاره عليه الصلاة والسلام إياهم دون أسلافهم الماضين ولعله الأظهر، وعدم إتيان نذير إياهم من قبله صلى الله تعالى عليه وسلم على القول بانتهاء حكم رسالة الرسول سوى نبينا عليه الصلاة والسلام بموته ظاهر، وأما إذا قيل: بعدم انتهائه بذلك وبقائه حكما لرسالة الرسول يجب على من علمه من ذراري المرسل إليهم الأخذ به من حيث إنه حكم من أحكام ذلك الرسول إلى أن يأتي رسول آخر فيؤخذ به من حيث إنه حكم من أحكامه أو على الوجه الذي يأمر به فيه من النسبة إليه أو من نسبته إلى من قبله أو يترك إن جاء الثاني ناسخا له فالمراد بعدم إتيان النذير إياهم عدم وصول ما أتى به على الحقيقة إليهم ولا يمكن أن يراد بهؤلاء القوم العرب مطلقا ويقال بأنهم لم يرسل إليهم قبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحد أصلا لظهور بطلانه ومنافاته لقوله تعالى: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير [فاطر: 24] والعرب أعظم أمة وكذا لقوله تعالى: لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [يس: 6] بناء على أن- ما- فيه ليست نافية وهو على القول بأن ما فيه نافية مؤول بحمل الآباء على الآباء الأقربين، ولا يكاد يجوز في ما هاهنا ما جاز فيها من الاحتمال في آية يس بل المتعين فيها النفي ليس غير، وتكلف غيره مما لا ينبغي في كتاب الله تعالى والنذير بمعنى المنذر، واحتمال كونه مصدرا بمعنى الإنذار مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وتغيير الترتيب الوقوعي بين قضاء الأمر بمعنى أحكام أمر نبوة موسى عليه السلام بالوحي وإيتاء التوراة وثوائه عليه السلام في أهل مدين المشار إليه بقوله تعالى: وما كنت ثاويا في أهل مدين والنداء [ ص: 89 ] للتنبيه على أن كلا من ذلك برهان مستقل على أن حكايته عليه الصلاة والسلام للقصة بطريق الوحي الإلهي ولو روعي الترتيب الوقوعي، ونفى أولا الثواء في أهل مدين ونفى ثانيا الحضور عند النداء ونفى ثالثا الحضور عند قضاء الأمر لربما توهم أن الكل دليل واحد على ما ذكر كما مر في قصة البقرة، ومن الناس من فسر قضاء الأمر بالاستنباء والنداء بالنداء لأخذ التوراة بقوله تعالى: خذ الكتاب بقوة [مريم: 12] رعاية للترتيب الوقوعي بينهما وتعقب بأنه يفوت عليه التنبيه المذكور مع أنه بهذا القدر لا يرتفع تغيير الترتيب الوقوعي بالكلية بين المتعاطفات لأن الثواء في أهل مدين متقدم على القضاء والنداء في الواقع، وقد وسط في النظم الكريم بينهما، وأيضا ما تقدم من تفسير كل من القضاء والنداء بما فسر أنسب بما يلي كلا من الاستدراك، ومما يستغرب أن بعض من فسر ما ذكر بما يوافق الترتيب الوقوعي فسر الشاهدين بالسبعين المختارين للميقات ولا يكاد يتسنى ذلك عليه لأنهم إنما كانوا مع موسى عليه السلام لما أعطي التوراة فكان عليه أن يفسره بغير ذلك وقد تقدم لك عدة تفاسير لا يأبى شيء منها تفسيره ما ذكر بما يوافق الترتيب الوقوعي، وجوز على التفسير بما يوافق كون المراد بالشاهدين الملائكة عليهم السلام الذين كانوا حول النار فإن الآثار ناطقة بحضورهم حولها عندما أتاها موسى عليه السلام وكذا قوله تعالى: أن بورك من في النار ومن حولها [النمل: 8] في قول، هذا وفي الآيات تفسيرات أخر فقال في قوله تعالى: الفراء وما كنت ثاويا إلخ أي وما كنت مقيما في أهل مدين مع موسى عليه السلام فتراه وتسمع كلامه وها أنت تتلو عليهم أي على أمتك آياتنا فهو منقطع اهـ، ونحوه ما روي عن فيه وهو أن المعنى لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مقاتل مكة خبرهم ولكنا أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا إليك هذه الأخبار ولولا ذلك ما علمت، وقال يقول سبحانه: إنك يا الضحاك: محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين تتلو عليهم آيات الكتاب وإنما كان غيرك ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولا فأرسلنا إلى أهل مدين شعيبا وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء اهـ. ولا يخفى أن ما قدمنا أولى بالاعتبار.
وذهب جمع إلى أن النداء في قوله تعالى: وما كنت بجانب الطور إذ نادينا كان نداء فيما يتعلق بهذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية وذكروا عدة آثار تدل على ذلك.
أخرج الفريابي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وصححه والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم معا في الدلائل عن والبيهقي قال في ذلك: نودوا يا أمة أبي هريرة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني واستجبت لكم قبل أن تدعوني.
وأخرجه من وجه آخر عن ابن مردويه مرفوعا. أبي هريرة
وأخرج هو أيضا في الدلائل وأبو نعيم وأبو نصر السجزي في الإبانة، عن والديلمي عمرو بن عيينة قال: سألت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى: وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك ما كان النداء وما كانت الرحمة؟ قال: كتاب كتبه الله تعالى قبل أن يخلق خلقه بألفي عام ثم وضعه على عرشه ثم نادى يا أمة محمد سبقت رحمتي غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي صادقا أدخلته الجنة.
وأخرج الختلي في الديباج عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعا مثله، وأخرج عن ابن مردويه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ابن عباس «لما قرب الله تعالى موسى إلى طور سيناء نجيا قال: أي رب هل أجد أكرم عليك مني؟ قربتني نجيا وكلمتني تكليما. قال: نعم. محمد عليه الصلاة والسلام أكرم (علي) منك. [ ص: 90 ] قال: فإن كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أكرم عليك مني فهل أمة محمد أكرم من بني إسرائيل؟ فلقت البحر لهم وأنجيتهم من فرعون وعمله وأطعمتهم المن والسلوى. قال: نعم. أمة محمد عليه الصلاة والسلام أكرم (علي) من بني إسرائيل. قال:
إلهي أرنيهم. قال: إنك لن تراهم وإن شئت أسمعتك صوتهم. قال: نعم إلهي. فنادى ربنا أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أجيبوا ربكم. قال: فأجابوا وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا: لبيك أنت ربنا حقا ونحن عبيدك حقا. قال: صدقتم أنا ربكم حقا وأنتم عبيدي حقا قد عفوت عنكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة».
. قال فلما بعث الله تعالى ابن عباس محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم أراد أن يمن عليه بما أعطاه وبما أعطى أمته فقال: يا محمد وما كنت بجانب الطور إذ نادينا، واستشكل ذلك بأنه معنى لا يناسب المقام ولا تكاد ترتبط الآيات عليه، ولا بد لصحة هذه الأخبار من دليل، وتصحيح لا يخفى حاله. الحاكم
وقال بعض: يمكن أن يقال على تقدير صحة الأخبار إن المراد وما كنت حاضرا مع موسى عليه السلام بجانب الطور لتقف على أحواله فتخبر بها الناس ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بذلك وبغيره رحمة منا لك وللناس، والتوقيت بنداء أمته ليس لكون المخبر به ما كان من ذلك بل لإدخال المسرة عليه عليه الصلاة والسلام فيما يعود إليه وإلى أمته وفيه تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم مما يكون من أمة الدعوة من الكفر به عليه الصلاة والسلام والإباء عن شريعته وتلويح ما إلى مضمون فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [الأنعام: 89] وحينئذ ترتبط الآيات بعضها ببعض ارتباطا ظاهرا فتأمل