وروي أن سليمان - عليه السلام - أمر الجن قبل قدومها فبنوا له على طريقها قصرا من زجاج أبيض، وأجرى من تحته الماء، وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره.
وفي رواية أنهم بنوا له صرحا، وجعلوا له طوابيق من قوارير كأنها الماء، وجعلوا في باطن الطوابيق كل ما يكون من الدواب في البحر، ثم أطبقوه، وهذا أوفق بظاهر الآية، ووضع سريره في صدره فجلس عليه، وعكفت عليه الطير والجن والإنس، وفعل ذلك؛ امتحانا لها أيضا على ما قيل، وقيل: ليزيدها استعظاما لأمره وتحقيقا لنبوته وثباتا على الدين، وقيل لأن الجن قالوا له - عليه السلام - إنها شعراء [ ص: 209 ] الساقين، ورجلها كحافر الحمار، فأراد الكشف عن حقيقة الحال بذلك.
وقال الشيخ الأكبر - قدس سره - ما حاصله: إنه أراد أن ينبهها بالفعل على أنها صدقت في قولها في العرش: «كأنه هو» حيث إنه انعدم في سبأ ووجد مثله بين يديه، فجعل لها صرحا في غاية اللطف والصفاء، كأنه ماء صاف وليس به، وهذا غاية الإنصاف منه - عليه السلام - ولا أظن الأمر كما قال، والله تعالى أعلم.
واستدل بالآية - على القول بأن أمرها بدخول الصرح ليتوصل به إلى كشف حقيقة الحال - على إباحة النظر قبل الخطبة، وفيه تفصيل مذكور في كتب الفقه.
فلما رأته أي: رأت صحنه بناء على أن الصرح بمعنى القصر حسبته لجة أي: ظنته ماء كثيرا وكشفت عن ساقيها لئلا تبتل أذيالها، كما هو عادة من يريد الخوض في الماء، وقرأ برواية ابن كثير قنبل «سأقيها» بهمز ألف (ساق) حملا له على جمعه سؤق وأسؤق، فإنه يطرد في الواو المضمومة هي أو ما قبلها قلبها همزة، فانجر ذلك بالتبعية إلى المفرد الذي في ضمنه.
وفي البحر حكى أن أبو علي أبا حية النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة، وأنشد:
أحب المؤقدين إلى مؤسى
وفي الكشف: الظاهر أن الهمز لغة في (ساق) ويشهد له هذه القراءة الثابتة في السبعة، وتعقب بأنه يأباه الاشتقاق، وأيا ما كان فقول من قال: إن هذه القراءة لا تصح لا يصح.
قال أي: سليمان - عليه السلام - حين رأى ما اعتراها من الدهشة والرعب، وقيل: القائل هو الذي أمرها بدخول الصرح وهو خلاف الظاهر إنه أي: ما حسبته (لجة صرح ممرد أي: مملس، ومنه الأمرد للشاب الذي لا شعر في وجهه، وشجرة مرداء لا ورق عليها، ورملة مرداء لا تنبت شيئا، والمارد المتعري من الخير من قوارير من ، وهو جمع قارورة. الزجاج
قالت حين عاينت هذا الأمر العظيم: رب إني ظلمت نفسي أي: بما كنت عليه من عبادة الشمس، وقيل: بظني السوء بسليمان - عليه السلام - حيث ظنت أنه يريد إغراقها في اللجة وهو بعيد.
ومثله ما قيل: أرادت ظلمت نفسي بامتحاني سليمان حتى امتحنني لذلك بما أوجب كشف ساقي بمرأى منه وأسلمت مع سليمان تابعة له مقيدة به، وما في قوله تعالى: لله رب العالمين من الالتفات إلى الاسم الجليل؛ لإظهار معرفتها بألوهيته تعالى، وتفرده باستحقاق العبادة، وربوبيته لجميع الموجودات التي من جملتها ما كانت تعبده قبل ذلك من الشمس، وكأن هذا القول تجديد لإسلامها على أتم وجه، وقد أخرجته مخرجا لا أنانية فيه، ولا كبر أصلا كما لا يخفى.
واختلف في أمرها بعد الإسلام، فقيل: إنه - عليه السلام - تزوجها وأحبها وأقرها على ملكها، وأمر الجن فبنوا لها سيلحين وغمدان، وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام، وولدت له.
وأخرج ، عن ابن عساكر سلمة بن عبد الله بن ربعي أنه - عليه السلام - أمهرها بعلبك.
وذكر غير واحد أنها حين كشفت عن ساقيها أبصر عليهما شعرا كثيرا فكره أن يتزوجها كذلك، فدعا الإنس فقال: ما يذهب بهذا؟ فقالوا: يا رسول الله المواسى فقال: المواسى تقطع ساقي المرأة .
وفي رواية أنه قيل لها ذلك فقالت: لم يمسسني الحديد قط، فكره سليمان المواسى، وقال: إنها تقطع ساقيها، ثم دعا الجن فقالوا مثل ذلك، ثم دعا الشياطين فوضعوا له النورة.
قال : وكان ذلك اليوم أول يوم رؤيت فيه النورة، وعن ابن عباس أن أول [ ص: 210 ] من وضع النورة شياطين الإنس، وضعوها عكرمة لبلقيس وهو خلاف المشهور، ويروى أن الحمام وضع يومئذ.
وفي تاريخ ، عن البخاري قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: أبي موسى الأشعري سليمان ». «أول من صنعت له الحمامات
وأخرج ، الطبراني وابن عدي في الكامل، في شعب الإيمان عنه أيضا قال: قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام -: والبيهقي سليمان، فلما وجد حره قال: أوه من عذاب الله تعالى». «أول من دخل الحمام
وروي عن أنه قال: زعموا أن وهب بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان: اختاري رجلا من قومك أزوجكه فقالت: أمثلي يا نبي الله تنكح الرجال، وقد كان في قومي من الملك والسلطان ما كان؟! قال: نعم، إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك، وما ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله تعالى لك، فقالت: زوجني - إن كان لا بد من ذلك - ذا تبع ملك همدان، فزوجها إياه، ثم ردها إلى اليمن، وسلط زوجها ذا تبع على اليمن، ودعا زوبعة أمير جن اليمن فقال: اعمل لذي تبع ما استعملك فيه، فلم يزل بها ملكا يعمل له فيها حتى مات سليمان، فلما أن حال الحول وتبين الجن موته - عليه السلام - أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته: يا معشر الجن إن الملك سليمان قد مات، فارفعوا أيديكم، فرفعوا أيديهم وتفرقوا، وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان ، عليه السلام.
وقال عون بن عبد الله : سأل رجل عبد الله بن عتبة : هل تزوج سليمان بلقيس ؟ فقال: انتهى أمرها إلى قولها: وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين قيل: يعني لا علم لنا وراء ذلك.
والمشهور أنه - عليه السلام – تزوجها، وإليه ذهب جماعة من أهل الأخبار، وأخرج في الزهد عن البيهقي قال: كسر برج من أبراج الأوزاعي تدمر فأصابوا فيه امرأة حسناء دعجاء مدمجة، كأن أعطافها طي الطوامير، عليها عمامة طولها ثمانون ذراعا، مكتوب على طرف العمامة بالذهب: «بسم الله الرحمن الرحيم، أنا بلقيس ملكة سبأ، زوجة سليمان بن داود - عليهما السلام - ملكت من الدنيا كافرة ومؤمنة ما لم يملكه أحد قبلي ولا يملكه أحد بعدي، صار مصيري إلى الموت فاقصروا يا طالبي الدنيا» والله تعالى أعلم بصحة الخبر، وكم في هذه القصة من أخبار الله تعالى أعلم بالصحيح منها، والقصة في نفسها عجيبة، وقد اشتملت على أشياء خارقة للعادة، بل يكاد العقل يحيلها في أول وهلة.
ومما يستغرب - ولله تعالى فيه سر خفي - خفاء أمر بلقيس على سليمان عدة سنين - كما قاله غير واحد - مع أن المسافة بينه وبينها لم تكن في غاية البعد، وقد سخر الله تعالى له من الجن والشياطين والطير والريح ما سخر، وهذا أغرب من خفاء أمر يوسف على يعقوب - عليهما السلام - بمراتب، وسبحان من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات وفي الأرض.
وهذا، وللصوفية في تطبيق ما في هذه القصة على ما في الأنفس كلام طويل، ولعل الأمر سهل على من له أدنى ذوق بعد الوقوف على بعض ما مر من تطبيقاتهم ما في بعض القصص على ذلك، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.