وقوله تعالى: إني وجدت امرأة تملكهم - أي: تتصرف بهم، ولا يعترض عليها أحد - استئناف لبيان ما جاء به من النبأ، وتفصيل له إثر إجمال، وعنى بهذه المرأة بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن ريان من نسل يعرب بن قحطان، ويقال: من نسل تبع الحميري.
وروى ، عن ابن عساكر أن اسم هذه المرأة ليلى، وهو خلاف المشهور، وقيل: اسم أبيها السرج بن الهداهد. الحسن
ويحكى أنه كان أبوها ملك أرض اليمن كلها، وورث الملك من أربعين أبا، ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت بعده على الملك ودانت لها الأمة.
وفي بعض الآثار أنه لما مات أبوها طمعت في الملك، وطلبت من قومها أن يبايعوها، فأطاعها قوم وأبى آخرون، فملكوا عليهم رجلا يقال: إنه ابن عمها، وكان خبيثا فأساء السيرة في أهل مملكته، حتى كان يفجر بنساء رعيته، فأرادوا خلعه فلم يقدروا عليه، فلما رأت ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه فأجابها، وقال: ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا اليأس منك، قالت: لا أرغب عنك لأنك كفؤ كريم، فاجمع رجال أهلي واخطبني، فجمعهم وخطبها، فقالوا: لا نراها تفعل، فقال: بلى إنها رغبت في، فذكروا لها ذلك فقالت: نعم، فزوجوها منه، فلما زفت إليه خرجت مع أناس كثير من حشمها وخدمها، فلما خلت به سقته الخمر حتى سكر، فقتلته، وحزت رأسه، وانصرفت إلى منزلها، فلما أصبحت أرسلت إلى وزرائه وأحضرتهم وقرعتهم، وقالت: أما كان فيكم من يأنف من الفجور بكرائم عشيرته، ثم أرتهم إياه قتيلا، وقالت: اختاروا رجلا تملكوه عليكم، فقالوا: لا نرضى غيرك، فملكوها، وعلموا أن ذلك النكاح كان مكرا وخديعة منها، واشتهر أن أمها جنية.
[ ص: 189 ] وقد أخرج ذلك ، ابن أبي شيبة ، عن وابن المنذر ، مجاهد والحكيم الترمذي ، ، عن وابن مردويه عثمان بن حاضر أن أمها امرأة من الجن، يقال لها: بلقمة بنت شيصا، ، عن وابن أبي حاتم زهير بن محمد أن أمها فارعة الجنية.
وفي التفسير الخازني أن أباها شراحيل كان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤا لي، وأبى أن يتزوج فيهم، فخطب إلى الجن فزوجوه امرأة يقال لها ريحانة بنت السكن، وسبب وصوله إلى الجن حتى خطب إليهم - على ما قيل - إنه كان كثير الصيد، فربما اصطاد الجن وهم على صور الظباء، فيخلي عنهم، فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك، واتخذه صديقا، فخطب ابنته فزوجه إياها.
وقيل: إنه خرج متصيدا فرأى حيتين يقتتلان بيضاء وسوداء، وقد ظهرت السوداء على البيضاء، فقتل السوداء وحمل البيضاء، وصب عليها الماء، فأفاقت، فأطلقها، فلما رجع إلى داره جلس وحده منفردا، فإذا هو معه شاب جميل، فخاف منه فقال: لا تخف، أنا الحية البيضاء الذي أحييتني، والأسود الذي قتلته هو عبد لنا تمرد علينا، وقتل عدة منا، وعرض عليه المال، فقال: لا حاجة لي به، ولكن إن كان لك بنت فزوجنيها، فزوجه ابنته فولدت له بلقيس ، انتهى.
وأخرج ، ابن جرير في (العظمة) وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن وابن عساكر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبي هريرة «أحد أبوي بلقيس كان جنيا».
والذي ينبغي أن يعول عليه عدم صحة هذا الخبر، وفي البحر: قد طولوا في قصصها يعني بلقيس بما لم يثبت في القرآن ولا الحديث الصحيح، وأن ما ذكر من الحكايات أشبه شيء بالخرافات، فإن الظاهر - على تقدير وقوع التناكح بين الإنس والجن الذي قيل: يصفع السائل عنه لحماقته وجهله - أن لا يكون توالد بينهما، وقد ذكر عن - فيما روى الحسن - أنه قيل بحضرته: إن ملكة ابن عساكر سبأ أحد أبويها جني، فقال: لا يتوالدون، أي: إن المرأة من الإنس لا تلد من الجن، والمرأة من الجن لا تلد من الإنس.
نعم، روي عن ما يقتضي صحة ذلك، ففي الأشباه والنظائر مالك لابن نجيم: روى أبو عثمان سعيد بن داود الزبيدي قال: كتب قوم من أهل اليمن إلى يسألونه عن مالك وقالوا: إن هاهنا رجلا من الجن زعم أنه يريد الحلال، فقال: ما أرى بأسا في الدين، ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل لها: من زوجك؟ قالت: من الجن، فيكثر الفساد في الإسلام بذلك، انتهى. نكاح الجن،
ولعله لم يثبت عن ؛ لظهور ما يرد على تعليل الكراهة، ثم ليت شعري إذا حملت الجنية من الإنسي هل تبقى على لطافتها فلا ترى، والحمل على كثافته فيرى، أو يكون الحمل لطيفا مثلها فلا يريان؟! فإذا تم أمره تكثف وظهر كسائر بني مالك آدم، أو تكون متشكلة بشكل نساء بني آدم ما دام الحمل في بطنها، وهو فيه يتغذى وينمو بما يصل إليه من غذائها، وكل من الشقوق لا يخلو عن استبعاد كما لا يخفى.
وإيثار (وجدت) على (رأيت) لما أشير إليه فيما سبق من الإيذان بكونه عند غيبته بصدد خدمته - عليه السلام - بإبراز نفسه في معرض من يتفقد أحوالها ويتعرفها، كأنها طلبته وضالته؛ ليعرضها على سليمان - عليه السلام - وقيل: للإشعار بأن ما ظفر به أمر غير معلوم أولا؛ لأن الوجدان بعد الفقد، وفيه رمز بغرابة الحال، وضمير (تملكهم) لسبأ، على أنه اسم للحي، أو لأهلها المدلول عليهم بذكر مدينتهم على أنها اسم لها، وليس في الآية ما يدل على جواز أن تكون المرأة ملكة، ولا حجة في عمل قوم كفرة على مثل هذا المطلب.
وفي صحيح من حديث البخاري ، ابن عباس فارس قد ملكوا بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة». أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه أن أهل
ونقل عن محمد بن جرير أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ولم يصح عنه، وفي الأشباه لا ينبغي أن تولى القضاء - وإن صح منها - بغير الحدود والقصاص، وذكر أنه نقل عن أبو حيان - عليه الرحمة - أنها تقضي فيما تشهد فيه لا على الإطلاق، [ ص: 190 ] ولا أن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم، وإنما ذلك على سبيل التحكيم لها. أبي حنيفة
وأوتيت من كل شيء أي: من الأشياء التي تحتاج إليها الملوك بقرينة (تملكهم) وقد يقال: ليس الغرض إلا إفادة كثرة ما أوتيت.
والجملة تحتمل أن تكون عطفا على جملة (تملكهم) وأن تكون حالا من ضمير (تملكهم) المرفوع بتقدير (قد) أو بدونه ولها عرش عظيم قال - كما أخرجه عنه ابن عباس ، ابن جرير -: أي: سرير كريم من ذهب، قوائمه من جوهر ولؤلؤ، حسن الصنعة، غالي الثمن، وروي عنه أيضا أنه كان ثلاثين ذراعا في ثلاثين ذراعا، وكان طوله في السماء ثلاثين ذراعا أيضا، وقيل: كان طوله ثمانين في ثمانين، وارتفاعه ثمانين. وابن المنذر
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم زهير بن محمد أنه سرير من ذهب، وصفحتاه مرصعتان بالياقوت والزبرجد، طوله ثمانون ذراعا في عرض أربعين ذراعا، وقيل: كان من ذهب مكللا بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وقوائمه من الياقوت والزمرد، وعليه سبعة أبيات، على كل بيت باب مغلق، وقيل غير ذلك، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وبالجملة فالظاهر أن المراد بالعرش السرير، وقال أبو مسلم : المراد به الملك ولا داعي إليه.
واستعظام الهدهد لعرشها - مع ما كان يشاهده من ملك سليمان عليه السلام - إما بالنسبة إلى حالها أو إلى عروش أمثالها من الملوك، وجوز أن يكون ذلك؛ لأنه لم يكن لسليمان - عليه السلام – مثله، وإن كان عظيم الملك، فإنه قد يوجد لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون للملك الذي هم تحت طاعته.
وأيا ما كان فوصفه بذلك بين يديه - عليه السلام - لما ذكر أولا من ترغيبه - عليه السلام - في الإصغاء إلى حديثه، وفيه توجيه لعزيمته - عليه السلام - نحو تسخيرها، ولذلك عقبه بما يوجب غزوها من كفرها وكفر قومها حيث قال: