وجوز أن تكون بيانية، كأنه قيل: هب لنا قرة أعين، ثم بينت القرة وفسرت بقوله سبحانه: من أزواجنا وذرياتنا وهذا مبني على مجيء من للبيان، وجواز ، وقرة العين كناية عن السرور والفرح، وهو مأخوذ من القر وهو البرد؛ لأن دمعة السرور باردة، ولذا يقال في ضده: أسخن الله تعالى عينه، وعليه قول تقدم المبين على المبين أبي تمام :
فأما عيون العاشقين فأسخنت وأما عيون الشامتين فقرت
وقيل: هو مأخوذ من القرار؛ لأن ما يسر يقر النظر به ولا ينظر إلى غيره، وقيل: في الضد: أسخن الله تعالى عينه، على معنى جعله خائفا مترقبا ما يحزنه، ينظر يمينا وشمالا وأماما ووراء، لا يدري من أين يأتيه ذلك، بحيث تسخن عينه لمزيد الحركة التي تورث السخونة، وفيه تكلف، وقيل: ( أعين ) بالتنكير - مع أن المراد بها أعين القائلين وهي معينة لقصد تنكير المضاف – للتعظيم، وهو لا يكون بدون تنكير المضاف إليه، وجمع القلة - على ما قال - لأن أعين المتقين قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم. الزمخشري
وتعقبه أبو حيان وابن المنير بأن المتقين - وإن كانوا قليلا بالإضافة إلى غيرهم - إلا أنهم في أنفسهم على كثرة من العدد، والمعتبر في إطلاق جمع القلة أن يكون المجموع قليلا في نفسه لا بالإضافة إلى غيره، وأجيب بأن المراد أنه استعمل الجمع المذكور في معنى القلة مجردا عن العدد بقرينة كثرة القائلين وعيونهم، واستظهر ابن المنير أن ذلك لأن المحكي كلام كل واحد من المتقين، فكأنه قيل: يقول كل واحد منهم: هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، فتدبر وتأمل في وجه اختيار هذا الجمع في غير هذا الموضع مما لا يتأتى فيه ما ذكروه هاهنا.
وأنا أظن أنه اختير الأعين جمعا للعين الباصرة، والعيون جمعا للعين الجارية في جميع القرآن الكريم، ويخطر لي في وجه ذلك شيء لا أظنه وجيها، ولعلك تفوز بما يغنيك عن ذكره، والله تعالى ولي التوفيق.
وقرأ ، طلحة ، وأهل وأبو عمرو الكوفة غير حفص «وذريتنا» على الإفراد، وقرأ عبد الله وأبو الدرداء «قرات» على الجمع وأبو هريرة واجعلنا للمتقين إماما أي: اجعلنا [ ص: 53 ] بحيث يقتدون بنا في إقامة مراسم الدين بإفاضة العلم والتوفيق للعمل، وإمام يستعمل مفردا وجمعا كهجان، والمراد به هنا الجمع؛ ليطابق المفعول الأول لجعل، واختير على أئمة؛ لأنه أوفق بالفواصل السابقة واللاحقة، وقيل: هو مفرد، وأفرد - مع لزوم المطابقة - لأنه اسم جنس فيجوز إطلاقه على معنى الجمع مجازا بتجريده من قيد الوحدة، أو لأنه في الأصل مصدر، وهو - لكونه موضوعا للماهية - شامل للقليل والكثير وضعا، فإذا نقل لغيره قد يراعى أصله، أو لأن المراد: (واجعل) كل واحد منا، أو لأنهم كنفس واحدة؛ لاتحاد طريقتهم واتفاق كلمتهم.
وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل ما ذكر أن مدار التوجيه على أن هذا الدعاء صدر عن الكل على طريق المعية وهو غير واقع، أو عن كل واحد وهو غير ثابت، فالظاهر أنه صدر عن كل واحد قول: (واجعلني للمتقين إماما) فعبر عنهم للإيجاز بصيغة الجمع وأبقي ( إماما ) على حاله.
وتعقب بأن فيه تكلفا وتعسفا مع مخالفته للعربية، وأنه ليس مداره على ذلك، بل إنهم شركوا في الحكاية في لفظ واحد لاتحاد ما صدر عنهم، مع أنه يجوز اختيار الثاني؛ لأن التشريك في الدعاء أدعى للإجابة، فاعرف ولا تغفل.
وروي عن أن (إماما) جمع آم بمعنى قاصد، كصيام جمع صائم، والمعنى: اجعلنا قاصدين للمتقين مقتدين بهم، وما ذكر أولا أقرب كما لا يخفى، وليس في ذلك - كما قال مجاهد - طلب للرياسة، بل مجرد كونهم قدوة في الدين وعلماء عاملين، وقيل: في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين مما ينبغي أن يطلب، وإعادة الموصول في المواقع السبعة - مع كفاية ذكر الصلات بطريق العطف على صلة الموصول الأول - للإيذان بأن كل واحد مما ذكر في حيز صلة الموصولات المذكورة وصف جليل على حياله، له شأن خطير، حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل، ولا يجعل شيء من ذلك تتمة لغيره، وتوسيط العاطف بين الموصولات لتنزيل الاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي كما عرفته فيما سبق غير مرة. النخعي