وجعلنا ابن مريم وأمه آية أي آية دالة على عظيم قدرتنا بولادته منها من غير مسيس بشر فالآية أمر واحد مشترك بينهما فلذا أفردت، وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي جعلنا حال ابن مريم وأمه آية أو جعلنا ابن مريم وأمه ذوي آية وأن يكون على حذف آية من الأول لدلالة الثاني عليه أو بالعكس أي جعلنا ابن مريم آية لما ظهر فيه عليه السلام من الخوارق كتكلمه في المهد بما تكلم صغيرا وإحيائه الموتى وإبرائه الأكمه والأبرص وغير ذلك كبيرا وجعلنا أمه آية بأن ولدت من غير مسيس، وقال إنها عليها [ ص: 38 ] السلام تكلمت في صغرها أيضا حيث قالت: الحسن:
هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب [آل عمران : 37] ولم تلتقم ثديا قط، وقال الخفاجي: لك أن تقول: إنما يحتاج إلى توجيه إفراد الآية بما ذكر إذا أريد أنها آية على قدرة الله تعالى أما إذا كانت بمعنى المعجزة أو الإرهاص فلا لأنها إنما هي لعيسى عليه السلام لنبوته دون مريم اهـ. ولا يخفى ما فيه والوجه عندي ما تقدم، والتعبير عن عيسى عليه السلام بابن مريم وعن مريم بأمه للإيذان من أول الأمر بحيثية كونهما آية فإن نسبته عليه السلام إليها مع أن النسب إلى الآباء دالة على أن لا أب له أي جعلنا ابن مريم وحدها من غير أن يكون له أب وأمه التي ولدته خاصة من غير مشاركة الأب آية، وتقديمه عليه السلام لأصالته فيما ذكر من كونه آية كما قيل أن تقديم أمه في قوله تعالى: وجعلناها وابنها آية للعالمين [الأنبياء: 91] لأصالتها فيما نسب إليها من الإحصان والنفخ، ثم اعلم أن الذي أجمع عليه الإسلاميون أنه ليس لمريم ابن سوى عيسى عليه السلام.
وزعم بعض النصارى قاتلهم الله تعالى أنها بعد أن ولدت عيسى تزوجت بيوسف النجار وولدت منه ثلاثة أبناء، والمعتمد عليه عندهم أنها كانت في حال الصغر خطيبة يوسف النجار وعقد عليها ولم يقربها ولما رأى حملها بعيسى عليه السلام وهم بتخليتها فرأى في المنام ملكا أوقفه على حقيقة الحال فلما ولدت بقيت عنده مع عيسى عليه السلام فجعل يربيه ويتعهده مع أولاد له من زوجة غيرها فأما هي فلم يكن يقربها أصلا، والمسلمون لا يسلمون أنها كانت معقودا عليها ليوسف ويسلمون أنها كانت خطيبته وأنه تعهدها وتعهد عيسى عليه السلام ويقولون: كان ذلك لقرابته منها وآويناهما أي جعلناهما يأويان إلى ربوة هي ما ارتفع من الأرض دون الجبل.
واختلف في المراد هنا فأخرج وكيع وابن أبي شيبة وابن المنذر بسند صحيح عن وابن عساكر أنه قال في قوله تعالى: ابن عباس إلى ربوة أنبئنا أنها دمشق، وأخرج عن ابن عساكر وعن عبد الله بن سلام يزيد بن شجرة الصحابي وعن وعن سعيد بن المسيب عن قتادة أنهم قالوا: الربوة هي الحسن دمشق، وفي ذلك حديث مرفوع أخرجه عن ابن عساكر بسند ضعيف. أبي أمامة
وأخرج جماعة عن أنه قال: هي الرملة من أبي هريرة فلسطين، وأخرج ذلك من حديثه مرفوعا، ابن مردويه
وأخرج في الأوسط، وجماعة عن الطبراني مرة البهزي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الربوة الرملة
، وأخرج وغيره عن ابن جرير أنه قال: هي الضحاك بيت المقدس، وأخرج هو وغيره أيضا عن أنه قال: كنا نحدث أن الربوة قتادة بيت المقدس، وذكروا عن كعب أن أرضه كبد الأرض وأقربها إلى السماء بثمانية عشر ميلا ولذا كان المعراج ورفع عيسى عليه السلام منه، وهذا القول أوفق بإطلاق الربوة على ما سمعت من معناها، وأخرج ، وغيره عن ابن المنذر وهب وغيره عن وابن جرير الربوة ابن زيد مصر، وروي عن أنه قال: هي زيد بن أسلم الإسكندرية، وذكروا أي قرى مصر كل واحدة منها على ربوة مرتفعة لعموم النيل في زيادته جميع أرضها فلو لم تكن القرى على الربى لغرقت، وذكر أن سبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى عليه السلام ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرت كذا في البحر، ورأيت في إنجيل متى أن عيسى عليه السلام لما ولد في بيت لحم في أيام هيرودس الملك وافى جماعة من [ ص: 39 ] المجوس من المشرق إلى أورشليم يقولون: أين المولود ملك اليهود فقد رأينا نجمة في المشرق وجئنا لنسجد له فلما سمع هيرودس اضطرب وجمع رؤساء الكهنة وكتبة الشعب فسألهم أين يولد المسيح؟ فقالوا: في بيت لحم فدعا المجوس سرا وتحقق منهم الزمان الذي ظهر لهم فيه النجم وأرسلهم إلى بيت لحم وقال لهم: اجهدوا في البحث عن هذا المولود فإذا وجدتموه فأخبروني لأسجد له معكم فذهبوا فوجدوه مع مريم فسجدوا وقربوا القرابين ورأوا في المنام أن لا يرجعوا إلى هيرودس فذهبوا إلى كورتهم ورأى يوسف في المنام ملكا يقول له قم فخذ الطفل وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك فإن هيردوس قد عزم على أن يطلب الطفل ليهلكه فقام وأخذ الطفل وأمه ليلا ومضى إلى مصر وكان هناك وفاة هيرودس فلما توفي رأى يوسف الملك في المنام يقول له: قم فخذ الطفل وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل فقد مات من يطلب نفس الطفل فقام وأخذهما وجاء إلى أرض إسرائيل فلما سمع أن أرشلاوس قد ملك على اليهودية بعد أبيه هيرودس خاف أن يذهب هناك فأخبر في المنام وذهب إلى تخوم الجليل فسكن في مدينة تدعى ناصرة اهـ، فإن صح هذا كان الظاهر أن الربوة في أرض مصر أو ناصرة من أرض الشام والله تعالى أعلم، وقرأ أكثر القراء «ربوة» بضم الراء وهي لغة قريش.
وقرأ «ربوة» بكسرها، أبو إسحاق السبيعي وابن أبي إسحاق «رباة» بضم الراء وبالألف، رضي الله تعالى عنهما وزيد بن علي والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب اللوامح بفتحها وبالألف. وقرئ بكسرها وبالألف ذات قرار أي مستقر من أرض منبسطة، والمراد أنها في واد فسيح تنبسط به نفس من يأوي إليه، وقال : ذات ثمار وزروع، والمراد أنها محل صالح لقرار الناس فيه لما فيه من الزروع والثمار وهو أنسب بقوله تعالى: مجاهد ومعين أي وماء معين أي جار، ووزنه فعيل على أن الميم أصلية من معنى جرى، وأصله الإبعاد في الشيء ومنه أمعن النظر.
وفي البحر معن الشيء معانة كثر أو من الماعون، وإطلاقه على الماء الجاري لنفعه، وجوز أن يكون وزنه مفعول كمخيط على أن الميم زائدة من عانه أدركه بعينه كركبه إذا ضربه بركبته وإطلاقه على الماء الجاري لما أنه في الأغلب يكون ظاهرا مشاهدا بالعين، ووصف الماء بذلك لأنه الجامع لانشراح الصدر وطيب المكان وكثرة المنافع .