ولكن لا تواعدوهن سرا استدراك عن محذوف دل عليه ستذكرونهن أي: فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن نكاحا، بل اكتفوا بما رخص لكم، وجواز أن يكون استدراكا عن ( لا جناح ) فإنه في معنى (عرضوا بخطبتهن) أو أكنوا في أنفسكم، ولكن إلخ، وحمله على الاستدراك على ما عنده، ليس بشيء، وإرادة النكاح من السر بواسطة إرادة الوطء منه؛ إذ قد تعارف إطلاقه عليه؛ لأنه يسر، ومنه قول امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت ... وأن لا يحسن السر أمثالي
وإرادة العقد من ذلك لما بينهما من السببية والمسببية، ولم يجعل من أول الأمر عبارة عن العقد؛ لأنه لا مناسبة بينهما في الظاهر، والمروي عن - رضي الله تعالى عنهما - أن (السر) هنا الجماع، وتوهم الرخصة حينئذ في المحظور الذي هو التصريح (بالنكاح) مما لا يكاد يخطر ببال، وعن ابن عباس سعيد بن جبير وروي عن الحبر أيضا: أنه العهد على الامتناع عن التزوج بالغير، وهو على هذه الأوجه نصب على المفعولية، وجوز انتصابه على الظرفية؛ أي: ومجاهد، لا تواعدوهن في السر، على أن المراد بذلك المواعدة بما يستهجن.إلا أن تقولوا قولا معروفا وهو التعريض الذي عرف تجويزه، والمستثنى منه ما يدل عليه النهي؛ أي: لا تواعدوهن نكاحا مواعدة ما إلا مواعدة معروفة، أو إلا مواعدة بقول معروف، أو لا تقولوا في وعد الجماع أو طلب الامتناع عن الغير إلا قولكم قولا معروفا والاستثناء في جميع ذلك متصل، وفي الكلام على الوجه الأول تصريح بما فهم من ( ولا جناح ) على وجه يؤكد ذلك الرفع، وهو نوع من الطرد - والعكس حسن - وعلى الأخيرين تأسيس لمعنى، ربما يعلم بطريق المقايسة؛ إذ حملوا (التعريض) فيهما على (التعريض) بالوعد لها أو الطلب منها، وهو غير (التعريض) السابق؛ لأنه بنفس (الخطبة) وإذا أريد الوجه الرابع وهو الأخير من الأوجه السابقة احتمل الاستثناء الاتصال والانقطاع، والانقطاع في المعنى أظهر على معنى لا تواعدوهن بالمستهجن ولكن واعدوهن بقول معروف لا يستحيا منه في المجاهرة من حسن المعاشرة والثبات إن وقع النكاح، وبعض قال بذلك إلا أنه جعل الاستثناء من سرا وضعف بأنه يؤدي إلى كون التعريض موعودا، وجعله من قبيل ( إلا من ظلم ) يأبى أن يكون استثناء منه، بل من أصل الحكم.
ولا تعزموا عقدة النكاح أي: لا تقصدوا قصدا جازما عقد ( عقدة النكاح ) وفي النهي عن مقدمة الشيء نهي [ ص: 152 ] عن الشيء على وجه أبلغ، وصح تعلق النهي به؛ لأنه من الأفعال الباطنة الداخلة تحت الاختيار، ولذا يثاب على النية، والمراد به العزم المقارن؛ لأن من قال: لا تعزم على السفر في صفر مثلا لم يفهم منه النهي عن عزم فيه متأخر الفعل إلى ربيع، وذلك لأن القصد الجازم حقه المقارنة، وتقدير المضاف لصحة التعلق؛ لأنه لا يكون إلا على الفعل، و(العقدة) ليست به؛ لأنها موضع العقد، وهو ما يعقد عليه ولم يقدره بعضهم، وجعل الإضافة بيانية، فالعقدة حينئذ نفس النكاح وهو فعل، ويحتمل أن يكون الكلام من باب حرمت عليكم أمهاتكم وعلى كل تقدير هي مفعول به، وجوز أن تكون مفعولا مطلقا على أن معنى (لا تعزموا) لا تعقدوا، فهو على حد (قعدت جلوسا) وأن الإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله، وقيل: المعنى لا تقطعوا ولا تبرموا عقدة النكاح، فيكون النهي عن نفس الفعل، لا عن قصده كما في الأول، وبهذا ينحط عنه، ومن الناس من حمل العزم على القطع ضد الوصل، وجعل المعنى: لا تقطعوا عقدة نكاح الزوج المتوفى بعقد نكاح آخر ولا حاجة حينئذ إلى تقدير مضاف أصلا، وفيه بحث؛ أما أولا فلأن مجيء العزم بمعنى القطع ضد الوصل في اللغة محل تردد، وقول حقيقة العزم القطع بدليل قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: الزمخشري: وروي: "لم يبيت" ليس بنص في ذلك، بل لا يكاد يصح حمله؛ إذ الدليل لا يساعده؛ إذ لا خفاء في أن المراد بعزم الصوم ليس قطعه بمعنى الفك، بل الجزم وقطع التردد، وأما ثانيا فلأنه لا معنى للنهي عن قطع عقدة نكاح الزوج الأول حتى ينهى عنه؛ إذ لا تنقطع عقدة نكاح المتوفى بعقد نكاح آخر؛ لأن الثاني لغو، ومن هنا قيل: إن المراد لا تفكوا عقدة نكاحكم ولا تقطعوها، ونفي القطع عبارة عن نفي التحصيل، فإن تحصيل الثمرة من الشجرة بالقطع، وهذا كما ترى مما لا ينبغي أن يحمل عليه كلام الله تعالى العزيز "لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل"، حتى يبلغ الكتاب أجله أي ينتهي ما كتب وفرض من العدة واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز أو من ذوات الصدور التي من جملتها ذلك فاحذروه ولا تعزموا عليه أو (احذروه) بالاجتناب عن العزم ابتداء أو إقلاعا عنه بعد تحققه واعلموا أن الله غفور يغفر لمن يقلع عن عزمه أو ذنبه خشية منه حليم 235 لا يعاجل بالعقوبة، فلا يتوهم من تأخيرها أن ما نهي عنه لا يستتبع المؤاخذة وإعادة العامل اعتناء بشأن الحكم، ولا يخفى ما في الجملة مما يدل على سعة رحمته - تبارك اسمه - .