وقوله تعالى إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا استثناء متصل من الضمير على الأول ومحل المستثنى إما الرفع على البدل أو النصب على أصل الاستثناء ، والمعنى لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من اتصف منهم بما يستأهل معه أن يشفع وهو المراد بالعهد ، وفسره بشهادة أن لا إله إلا الله، والتبري من الحول والقوة عدم رجاء أحد إلا الله تعالى ، وأخرج ابن عباس ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والطبراني [ ص: 138 ] وابن مردويه وصححه عن والحاكم أنه قرأ الآية وقال : إن الله تعالى يقول يوم القيامة : ( من كان له عندي عهد فليقم فلا يقوم إلا من قال هذا في الدنيا : اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعله لي عهدا عندك تؤديه إلي يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ) ، وأخرج ابن مسعود عن ابن أبي شيبة أنه قال : العهد الصلاح ، وروي نحوه عن مقاتل السدي ، وقال وابن جريج : هو حفظ كتاب الله تعالى ، وتسمية ما ذكر عهدا على سبيل التشبيه ، وقيل : المراد بالعهد الأمر والإذن من قولهم : عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به أي لا يملك العباد أن يشفعوا إلا من أذن الله عز وجل له بالشفاعة وأمره بها فإنه يملك ذلك ، ولا يأبى (عند) الاتخاذ أصلا فإنه كما يقال : أخذت الإذن في كذا يقال : اتخذته ، نعم في قوله تعالى الليث عند الرحمن نوع إباء عنه مع أن الجمهور على الأول ، والمراد بالشفاعة على القولين ما يعم الشفاعة في دخول الجنة والشفاعة في غيره، ونازع في ذلك المعتزلة فلم يجوزوا الشفاعة في دخول الجنة والأخبار تكذبهم ، فعن قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي سعيد الخدري ، وجوز إن الرجل من أمتي ليشفع للفئام من الناس، فيدخلون الجنة بشفاعته، وإن الرجل ليشفع للرجل وأهل بيته فيدخلون الجنة بشفاعته أن يراد بالشفاعة الشفاعة العامة في فصل القضاء وبمن اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم، وبالعهد الوعد بذلك في قوله سبحانه وتعالى : ابن عطية عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وهو خلاف الظاهر جدا ، وعلى الوجه الثاني في ضمير الجمع الاستثناء من الشفاعة بتقدير مضاف وهو متصل أيضا .
وفي المستثنى الوجهان السابقان أي لا يملك المتقون الشفاعة إلا شفاعة من اتخذ عند الرحمن عهدا ، والمراد به الإيمان ، وإضافة المصدر إلى المفعول . وقيل : المستثنى منه محذوف على هذا الوجه أي لا يملك المتقون الشفاعة لأحد إلا من اتخذ إلخ أي إلا لمن اتصف بالإيمان . وجوز أن يكون الاستثناء من الشفاعة بتقدير المضاف على الوجه الأول في الضمير أيضا ، وأن يكون المصدر مضافا لفاعله أو مضافا لمفعوله . وجوز عليه أيضا أن يكون المستثنى منه محذوفا كما سمعت ، وعلى الوجه الثالث الاستثناء من الضمير وهو متصل أيضا ، وفي المستثنى الوجهان أي لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان مؤمنا فإنه يملك أن يشفع له . وقيل : الاستثناء على تقدير رجوع الضمير إلى المجرمين منقطع لأن المراد بهم الكفار ، وحمل ذلك على العصاة والكفار بعيد كما قال ، والمستثنى حينئذ لازم النصب عند الحجازيين جائز نصبه وإبداله عند أبو حيان تميم .
وجوز أن تكون الواو في الزمخشري لا يملكون علامة الجمع كالتي في- أكلوني البراغيث- والفاعل من اتخذ لأنه في معنى الجمع . وتعقبه بقوله : لا ينبغي حمل القرآن على هذه اللغة القليلة مع وضوح جعل الواو ضميرا . وذكر الأستاذ أبو حيان أبو الحسن بن عصفور أنها لغة ضعيفة ، وأيضا فالواو والألف والنون التي تكون علامات لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلا إلا بصريح الجمع وصريح التثنية أو العطف إما أن يأتي بلفظ مفرد يطلق على جمع أو مثنى فيحتاج في إثباته إلى نقل ، وأما عود الضمائر مثناة ومجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب فيمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الأحوط أن لا يقال ذلك إلا بسماع . انتهى . وتعقبه أيضا ابن المنير بأن فيه تعسفا لأنه إذا جعل الواو علامة لمن ثم أعاد على لفظها بالإفراد ضمير (اتخذ) كان ذلك إجمالا بعد إيضاح وهو تعكيس في طريق البلاغة التي [ ص: 139 ] هي الإيضاح بعد الإجمال والواو على إعرابه وإن لم تكن عائدة على من إلا أنها كاشفة لمعناها كشف الضمير العائد لها ثم قال :
فتنبه لهذا النقد فإنه أروج من النقد
وفي عنق الحسناء يستحسن العقد
انتهى ، ومنه يعلم القول بجواز رجوع الضمير لها أولا باعتبار معناها وثانيا باعتبار لفظها لا يخلو عن كدر .