ومن يهد الله كلام مبتدأ غير داخل في حيز ( قل ) يفصل ما أشار إليه الكلام السابق من مجازاة العباد لما أن علمه تعالى في مثل هذا الموضع مستعمل بمعنى المجازاة؛ أي: من يهد الله تعالى إلى الحق فهو المهتد إليه وإلى ما يؤدي إليه من الثواب أو المهتدي إلى كل مطلوب، والأكثرون حذفوا ياء المهتدي ومن يضلل يخلق فيه الضلال لسوء اختياره وقبح استعداده كهؤلاء المعاندين فلن تجد لهم أولياء أي: أنصارا من دونه عز وجل يهدونهم إلى طريق الحق أو إلى طريق يوصلهم إلى مطالبهم الدنيوية والأخروية أو إلى طريق النجاة من العذاب الذي يستدعيه ضلالهم على معنى: لن تجد لأحد منهم وليا على ما يقتضيه قضية مقابلة الجمع بالجمع من انقسام الآحاد على الآحاد على [ ص: 175 ] ما هو المشهور وقيل: قال سبحانه: أولياء مبالغة؛ لأن الأولياء إذا لم تنفعهم فكيف الولي الواحد، وضمير ( لهم ) عائد على «من» باعتبار معناه كما أن (هو) عائد عليه باعتبار لفظه فلذا أفرد الضمير تارة وجمع أخرى.
وفي إيثار الإفراد والجمع فيما أوثرا فيه تلويح بوحدة طريق الحق وقلة سالكيه وتعدد سبل الضلال وكثرة الضلال، وذكر وتبعه بعضهم أن الجملة الثانية من المواضع التي جاء فيها الحمل على المعنى ابتداء من غير أن يتقدمه الحمل على اللفظ وهي قليلة في القرآن. وتعقب ذلك أبو حيان الخفاجي بأنه لا وجه له فإنه حمل فيها الضمير على اللفظ أولا إذ في قوله تعالى: يضلل ضمير محذوف مفرد إذ تقديره يضلله على الأصل وهو راجع إلى لفظ «من» فلا يقال إنه لم يتقدمه حمل على اللفظ ثم قال: وأغرب من ذلك ما قيل إنه قد يقال: إن الحمل على اللفظ قد تقدمه في قوله سبحانه: (من يهد الله) وإن كان في جملة أخرى اه.
وفيه أن وجهه جعل أبي حيان من مفعول يضلل كما نص عليه في البحر وكذا نص على أنها في الجملة الأولى مفعول «يهد» وحينئذ ليس هناك ضمير مفرد محذوف كما لا يخفى فتفطن، وجوز كون الجملتين داخلتين في حيز ( قل ) لمجيء ومن بالواو، وقوله تعالى: ونحشرهم أوفق بالأول وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم للإيذان لكمال الاعتناء بأمر الحشر، وعلى الاحتمال الثاني يجعل حكاية لما قاله الله تعالى له عليه الصلاة والسلام يوم القيامة حين يقومون من قبورهم على وجوههم في موضع الحال من الضمير المنصوب؛ أي: كائنين عليها إما مشيا بأن يزحفون منكبين عليها ويشهد له ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن قال: أنس قيل: يا رسول الله، كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم.
والمراد كيف يحشر هذا الجنس على الوجه؛ لأن ذلك خاص بالكفار وغيرهم يحشر على وجه آخر.
فقد أخرج أبو داود وحسنه والترمذي وغيرهم عن وابن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة يوم يسحبون في النار على وجوههم . «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف مشاة -أي على العادة- وصنف ركبان، وصنف على وجوههم. قيل: يا رسول الله، وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك، وإما سحبا بأن تجرهم الملائكة منكبين عليها كقوله تعالى:
ويشهد له ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه عن والحاكم أنه تلا هذه الآية: أبي ذر ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم إلخ فقال: حدثني الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج: فوج طاعمين كاسين راكبين، وفوج يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم.
وأخرج أحمد والنسائي وحسنه عن والترمذي معاوية بن حيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم تحشرون رجالا وركبانا وتجرون على وجوهكم».
وليطلب وجه الجمع فإن لم يوجد فالمعول عليه ما شهد له حديث الشيخين، ولا تعين الآية أعني قوله تعالى: يوم يسحبون في النار على وجوههم .
الثاني لأن القرآن يفسر بعضه بعضا لأنها في حالهم بعد دخول النار وما هنا في حالهم قبل فتغايرا، وزعم بعضهم أن الكلام على المجاز؛ وذلك كما يقال للمنصرف خائبا عن أمر مهموما: انصرف على وجهه، فالمراد: ونجرهم يوم القيامة مهمومين خائبين، وكأن الداعي لهذا الارتكاب أنه قد روى عن حمل الأحوال الآنية على المجاز، وحينئذ تكون جميع الأحوال على طراز واحد ولا يخفى عليك، فإياك أن تلتفت إلى تأويل نطقت [ ص: 176 ] السنة النبوية بخلافه ولا تعبأ بقوم يفعلون ذلك ابن عباس عميا وبكما وصما أحوال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع حالا أولا، وفي إرشاد العقل السليم أنها أحوال من الضمير المجرور في الحال السابقة، والأول أبعد عن القيل والقال، وجوز كون ذلك بدلا من تلك الحال وهو كما ترى. أبو البقاء
واستظهر كون المراد مما ذكر حقيقته ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع. أبو حيان
نعم قد يختم على أفواههم في البين، وقيل: هو على المجاز على معنى أنهم لفرط الحيرة والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات أو على معنى أنهم لا يرون شيئا يسرهم ولا يسمعون كذلك ولا ينطقون بحجة كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه، وأخرج ذلك ابن جرير عن وابن أبي حاتم وروي أيضا عن ابن عباس، فنزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به، ولا يعكر عليه أن بعض الآيات يدل على سلب بعض القوى عنهم لاختلاف الأوقات، وقيل: عميا عن النظر إلى ما جعل الله تعالى لأوليائه، بكما عن الكلام معه سبحانه، صما عما مدح الله تعالى به أولياءه، وقيل: يحصل لهم ذلك حقيقة بعد قوله تعالى لهم: الحسن اخسئوا فيها ولا تكلمون وعلى هذا تكون الأحوال مقدرة كقوله تعالى: مأواهم أي: مستقرهم جهنم على تقدير جعله حالا، ويحتمل أن يكون استئنافا، وقوله سبحانه: كلما خبت زدناهم سعيرا يحتمل أيضا الاستئناف ويحتمل أن يكون حالا من جهنم كما قال وجعل العامل في الحال معنى المأوى، وقال أبو البقاء، الطبرسي: هو حال منها لأنها توضع متلظ ومتسعر ولولا ذلك ما جعل حالا منها.
وجوز جعله حالا مما جعلت الجملة الأولى منه، لكن بعد اعتبارها في النظم، والرابط الضمير المنصوب في: «زدناهم» وهو كما ترى، والاستئناف أقل مؤنة، والخبو وكذا الخبو بضمتين وتشديد وهما مصدرا خبت النار؛ سكون اللهب. قال في البحر: يقال: خبت النار تخبو إذا سكن لهبها وخمدت إذا سكن جمرها وضعف وهمدت إذا طفئت جملة، وقال خبت النار سكن لهبها وصار عليها خباء من رماد أي غشاء، وفي القاموس تفسير خبت بسكنت وطفئت وتفسير طفئت بذهب لهبها وفيه مخالفة لما في البحر والأكثرون على ما فيه، ومن الغريب ما أخرجه الراغب: عن ابن الأنباري أبي صالح من تفسير «خبت» في الآية بحميت وهو خلاف المشهور والمأثور، والسعير اللهب، والمعنى: كلما سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم ولم يبق ما تتعلق به النار وتحرقه زدناهم لهبا وتوقدا بأن أعدناهم على ما كانوا فاستعرت النار بهم وتوقدت، أخرج ابن جرير وغيرهما عن وابن المنذر رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: إن الكفرة وقود النار، فإذا أحرقتهم فلم يبق شيء صارت جمرا تتوهج فذلك خبوها فإذا بدلوا خلقا جديدا عاودتهم، ولعل ذلك على ما قاله بعض الأجلة عقوبة لهم على إنكارهم الإعادة بعد الإفناء بتكررها مرة بعد الأخرى ليروها عيانا حيث لم يروها برهانا كما يفصح عنه ما بعد. واستشكل ما ذكر بأن قوله تعالى: ابن عباس كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها يدل على أن النار لا تتجاوز عن إنضاجهم إلى إحراقهم وإفنائهم فيعارض ذلك، وأجاب بعضهم بأن تبديلهم جلودا غيرها بإحراقها وإفنائها وخلق غيرها [ ص: 177 ] فكأنه قيل: كلما نضجت جلودهم أحرقناها وأفنيناها وخلقنا لهم غيرها، وبعض بأن المراد كلما نضجت جلودهم كمال النضج بأن يبلغ شيها إلى حد لو بقيت عليه لا يحس صاحبها بالعذاب وهو مرتبة الاحتراق بدلناهم إلخ ويدل على ذلك قوله تعالى: ليذوقوا العذاب ، وقال الخفاجي: أجيب بأنه يجوز أن يحصل لجلودهم تارة النضج وتارة الإفناء أو كل منهما في حق قوم على أنه لا سد لباب المجاز بأن يجعل النضج عبارة عن مطلق تأثير النار؛ إذ لا يحصل في ابتداء الدخول غير الإحراق دون النضج اه. ولا يخفى ما في قوله بأن يجعل النضج: عبارة عن مطلق تأثير النار من المساهلة، وفي قوله: إذ لا يحصل إلخ... منع ظاهر، وذكر أنه أورد على الجواب الأول أن كلمة كلما تنافيه وفيه بحث فتأمل، وربما يتوهم أن بين هذه الآية وقوله تعالى: لا يخفف عنهم العذاب تعارضا لأن الخبو يستلزم التخفيف وهو مدفوع بأن الخبو سكون اللهب كما سمعت، واستلزامه تخفيف عذاب النار ممنوع، على أنا لو سلمنا الاستلزام، فالعذاب الذي لا يخفف ليس منحصرا بالعذاب بالنار والإيلام بحراراتها وحينئذ فيمكن أن يعوض ما فات منه بسكون اللهب بنوع آخر من العذاب مما لا يعلمه إلا الله تعالى. وذكر الإمام أن قوله سبحانه: زدناهم سعيرا يقتضي ظاهره أن الحالة الثانية أزيد من الحالة الأولى فتكون الحالة الأولى تخفيفا بالنسبة إلى الحالة الثانية، وأجاب بأنه حصل في الحالة الأولى خوف حصول الثانية، فكان العذاب شديدا، ويحتمل أن يقال: لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في أثنائه غير مشعور به نعوذ بالله تعالى منه اه.
وقد يقال: ليس في الآية أكثر من ازدياد توقدهم ولعله لا يستلزم ازدياد عذابهم، والمراد من الآية: كلما أحرقوا أعيدوا إلا أنه عبر بما عبر للمبالغة، ويشير إلى كون المراد بذلك قوله تعالى: زدناهم دون زدناها فتدبر.