ذرية من حملنا مع نوح نصب على الاختصاص أو على النداء، والمراد الحمل على التوحيد بذكر إنعامه تعالى عليهم في تضمن إنجاء آبائهم من الغرق في سفينة نوح عليه السلام حين ليس لهم وكيل يتوكلون عليه سواه تعالى، وخص مكي النداء بقراءة الخطاب قال: من قرأ «يتخذوا» بياء الغيبة يبعد معه النداء؛ لأن الياء للغيبة والنداء للخطاب فلا يجتمعان إلا على بعد، ونعم ما قال، وقول بعضهم: ليس كما زعم إذ يجوز أن ينادي الإنسان شخصا ويخبر عن أحد فيقول: يا زيد ينطلق بكر وفعلت كذا يا زيد ليفعل عمرو كيت وكيت، إن كما زعم لا يدفع البعد الذي ادعاه مكي.
وجوز أن يكون أحد مفعولي تتخذوا و وكيلا الآخر هو لكونه فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه الواحد المذكر وغيره فلا يرد أنه كيف يجوز أن يكون مفعولا ثانيا والمفعول الثاني خبر معنى وهو غير مطابق هنا و من دوني حال منه و ( من ) يجوز أن تكون ابتدائية.
وجوز أيضا أن يكون بدلا من وكيلا لأن المبدل منه ليس في حكم الطرح من كل الوجوه أي: لا تتخذوا من دوني ذرية من حملنا والمراد نهيهم عن اتخاذ عزير وعيسى عليهما السلام ونحوهما أربابا. وفي التعبير بما ذكر إيماء إلى علة النهي من أوجه: أحدها: تذكير النعمة في إنجاء آبائهم كما ذكر، والثاني تذكير ضعفهم، وحالهم المحوج إلى الحمل، والثالث: أنهم أضعف منهم لأنهم متولدون منهم، وفي إيثار لفظ الذرية الواقعة على الأطفال والنساء في العرف الغالب مناسبة تامة لما ذكر، وجوز كونه بدلا من أبو البقاء موسى وهو بعيد جدا. وقرأت فرقة: (ذرية) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو ذرية، ولا بعد فيه كما توهم أو على البدل من ضمير (يتخذوا) قال على القراءة بياء الغيبة، وقال أبو البقاء: ولا يجوز هذا على القراءة بتاء الخطاب لأن ضمير المخاطب لا يبدل منه الاسم الظاهر، وتعقبه ابن عطية: في البحر بأن المسألة تحتاج إلى تفصيل؛ وذلك أنه إن كان في بدل بعض من كل وبدل اشتمال جاز بلا خلاف، وإن كان في بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة إن كان يفيد التوكيد جاز بلا خلاف أيضا، نحو: مررت بكم صغيركم وكبيركم. وإن لم يفد التوكيد فمذهب جمهور البصريين المنع، ومذهب أبو حيان والكوفيين الجواز وهو الصحيح؛ لوجود ذلك في لسان العرب. وقد استدل على صحته في شرح التسهيل، وقرأ الأخفش زيد بن ثابت وأبان بن عثمان، وزيد بن علي، في رواية بكسر ذال (ذرية) وفي رواية أخرى عن ومجاهد أنه قرأ بفتحها، وعن مجاهد أيضا أنه قرأ: (ذرية) بفتح الذال وتخفيف الراء وتشديد الياء على وزن فعيلة كمطية زيد بن ثابت إنه أي: نوحا عليه السلام كان عبدا شكورا كثير الشكر في مجامع حالاته.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر في الشعب والحاكم وصححه عن والبيهقي قال: كان نوح عليه السلام إذا لبس ثوبا أو طعم طعاما حمد الله تعالى فسمي عبدا شكورا، وأخرج سلمان الفارسي في [ ص: 16 ] زوائد الزهد عن عبد الله بن أحمد إبراهيم قال: شكره عليه السلام أن يسمي إذا أكل، ويحمد الله تعالى إذا فرغ.
وأخرج عن ابن مردويه معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما سمى الله تعالى نوحا عبدا شكورا؛ لأنه كان إذا أمسى وأصبح قال: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون
وأخرج وغيره عن البيهقي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عائشة «إن نوحا لم يقم عن خلاء قط إلا قال: الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى في منفعته وأذهب عني أذاه».
وهذا من جملة شكره عليه السلام.
وفي هذه الجملة إيماء بأن إنجاء من معه عليه السلام كان ببركة شكره وحث للذرية على الاقتداء به وزجر لهم عن الشرك الذي هو أعظم مراتب الكفر، وهذا وجه ملاءمتها لما تقدم، وقال يجوز أن يقال ذلك عن ذكره على سبيل الاستطراد وحينئذ فلا يطلب ملاءمته مع ما سبق له الكلام إلا من حيث إنه كان من شأن من ذكر أعني الزمخشري: نوحا عليه السلام، وقيل: ضمير: ( إنه ) عائد على موسى عليه السلام، والجملة مسوقة على وجه التعليل إما لإيتاء الكتاب أو لجعله عليه السلام هدى بناء على أن ضمير ( جعلناه ) له أو للنهي عن الاتخاذ وفيه بعد فتدبر.