فقد أخرج ابن النجار في تاريخه من طريق العكلي عن أبيه قال: مر كرم الله تعالى وجهه بقوم يتحدثون فقال: فيم أنتم؟ فقالوا: نتذاكر المروءة فقال: أوما كفاكم الله عز وجل ذاك في كتابه إذ يقول: علي بن أبي طالب إن الله يأمر بالعدل والإحسان فالعدل الإنصاف والإحسان التفضل فما بقي بعد هذا.
وأعلى مراتب الإحسان على هذا الإحسان إلى المسيء وقد أمر به نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم.
وأخرج عن ابن أبي حاتم قال: قال الشعبي عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك، رضي الله تعالى عنهما بعد ما فسر [ ص: 218 ] العدل بالتوحيد فسر الإحسان بأداء الفرائض، وفيه اعتبار الإحسان متعديا بنفسه، وقيل: العدل أن ينصف وينتصف والإحسان أن ينصف ولا ينتصف وقيل العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال. وابن عباس
وإيتاء ذي القربى أي إعطاء الأقارب حقهم من الصلة والبر، وهذا داخل في العدل أو الإحسان وصرح به اهتماما بشأنه، والظاهر أن المراد بذي القربى ما يعم سائر الأقارب سواء كانوا من جهة الأم أو من جهة الأب، وهذا هو المراد بذوي الأرحام الذين حث الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم على صلتهم على الأصح، وقيل: ذوو الأرحام الأقارب من جهة الأم، وذكر الطبرسي أن المروي عن أن المراد من ذي القربى هنا قرابته صلى الله تعالى عليه وسلم المرادون في قوله سبحانه: أبي جعفر فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى .
وينهى عن الفحشاء الإفراط في متابعة القوة الشهوية كالزنا مثلا، وفسر رضي الله تعالى عنهما الفحشاء به، ولعله تمثيل لا تخصيص (والمنكر) ما ينكر على متعاطيه من الإفراط في إظهار القوة الغضبية، وعن ابن عباس ابن عباس تفسيره بالشرك، وعن ومقاتل ابن السائب أنه ما وعد عليه بالنار، وعن ابن عيينة أنه مخالفة السريرة للعلانية، وقيل: ما لا يوجب الحد في الدنيا لكن يوجب العذاب في الآخرة.
وقال : ما تنكره العقول. وتعقبه الزمخشري ابن المنير فقال: إنه لفتة إلى الاعتزال ولو قال: المنكر ما أنكره الشرع لوافق الحق لكنه لا يدع بدعة المعتزلة في التحسين والتقبيح بالعقل، وقال في الكشف بعد قوله: ما تنكره العقول أي بعد رده إلى قوانين الشرع فالإنكار بالعقل بالضرورة، وإنما الخلاف في مأخذه والمقصود أن ما يمكن أن يجري على المذهبين لا يحق المحاقة فيه وهو كالتعريض بابن المنير، واستظهر أن المنكر أعم من الفحشاء قال: لاشتماله على المعاصي والرذائل، وعلى أولا ليس الأمر كذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى أبو حيان والبغي الاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم، وهو من آثار القوة الوهمية الشيطانية التي هي حاصلة من رذيلتي القوتين المذكورتين الشهوانية والغضبية، وأصل معنى البغي الطلب ثم اختص بطلب التطاول بالظلم والعدوان، ومن ثم فسر بما فسر وبذلك فسره رضي الله تعالى عنهما وتخصيص كل من المتعاطفات الثلاثة المنهي عنها بالإشارة إلى قوة من القوى الثلاثة مما ذهب إليه غير واحد. ابن عباس
واعترض بأن ذلك مما لا دليل عليه، وقال بعضهم: المنكر أعم الثلاثة باعتبار أن المراد به ما ينكره الشرع ويقبحه من الأقوال أو الأفعال سواء عظم قبحه ومفسدته أم لا وسواء كان متعديا إلى الغير أم لا، وأن المراد بالفحشاء ما عظم قبحه من ذلك، ومنه قيل لمن عظم قبحه في البخل فاحش، وعلى ذلك حمل قول الشاعر: الراغب
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد
والبغي التطاول بالظلم والعدوان ففي الآية عطف العام على الخاص وعطف الخاص على العام، وقيل: المراد بالفحشاء مقابل العدل ويفسر بما خرج عن سنن الاعتدال إلى جانب الإفراط، وبالمنكر ما يقابل ما فيه الإحسان ويفسر بما أتى به على غير الوجه اللائق بل على وجه ينكر ويستقبح وبالبغي ما يقابل إيتاء ذي القربى [ ص: 219 ] ويفسر بما فسر ويكون قد قوبل في الآية الأمر بالنهي وكل من المأمور به بكل من المنهي عنه وجمع بين الأمر والنهي مع أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده لمزيد الاهتمام والاعتناء. والإمام الرازي قد أطال الكلام في هذا المقام وذكر أن ظاهر الآية يقتضي المغايرة بين الثلاثة المأمور بها ويقتضي أيضا المغايرة بين الثلاثة المنهي عنها وشرع في بيان المغايرة بين الأول ثم قال: والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب من الخيرات والإحسان عبارة عن الزيادة في الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية وبحسب الدواعي والصوارف وبحسب الاستغراق في شهود مقام العبودية والربوبية، ويدخل في تفسيره التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلقه سبحانه، ومن الظاهر أن الشفقة على الخلق أقسام كثيرة أشرفها وأجلها صلة الرحم لا جرم أنه سبحانه أفرده بالذكر، ثم شرع في بيان المغايرة بين الأخيرة وقال: تفصيل القول في ذلك أنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعة وهي الشهوانية البهيمية والغضبية السبعية والوهمية الشيطانية والعقلية الملكية، وهذه الأخيرة لا يحتاج الإنسان إلى تهذيبها لأنها من جوهر الملائكة عليهم السلام ونتائج الأرواح القدسية العلوية وإنما المحتاج إلى التهذيب الثلاثة قبلها، ولما كانت الأولى أعني القوة الشهوانية إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية وكان هذا النوع مخصوصا باسم الفحش- ألا ترى أنه تعالى سمى الزنا فاحشة- أشار إلى تهذيبها بقوله سبحانه: وينهى عن الفحشاء المراد منه المنع من تحصيل الذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة، ولما كانت الثانية أعني القوة الغضبية السبعية تسعى أبدا في إيصال الشر والبلاء والإيذاء إلى سائر الناس أشار سبحانه إلى تهذيبها بنهيه تعالى عن المنكر إذ لا شك أن الناس ينكرون تلك الحالة فالمنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية، ولما كانت الثالثة أعني القوة الوهمية الشيطانية تسعى أبدا في الاستعلاء على الناس والترفع وإظهار الرياسة والتقدم أشار سبحانه إلى تهذيبها بالنهي عن البغي إذ لا معنى له إلا التطاول والترفع على الناس، ثم قال: ومن العجائب في هذا الباب أن العقلاء قالوا: أخس هذه القوى الثلاث الشهوانية وأوسطها الغضبية وأعلاها الوهمية، والله تعالى راعى هذا الترتيب فبدأ سبحانه بذكر الفحشاء التي هي نتيجة القوة الشهوانية ثم بالمنكر الذي هو نتيجة القوة الغضبية ثم بالبغي الذي هي نتيجة القوة الوهمية اه. وما تقدم عن غير واحد مأخوذ من هذا، ولينظر هل يثبت بما قرره دليل التخصيص فيندفع الاعتراض السابق أم لا، ثم إن الظاهر عليه أن عطف البغي على ما قبله كعطف (إيتاء ذي القربى) على ما قبله.
وبالجملة أن الآية كما أخرج في الأدب البخاري في شعب الإيمان والبيهقي وصححه عن والحاكم أجمع آية للخير والشر، وأخرج ابن مسعود عن البيهقي نحو ذلك، وأخرج الحسن الباوردي في معرفة الصحابة عن وأبو نعيم عبد الملك بن عمير قال: بلغ أكتم بن صيفي مخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأراد أن يأتيه فأتى قومه فانتدب رجلان فأتيا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالا: نحن رسل أكتم يسألك من أنت وما جئت به؟ فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: أنا محمد بن عبد الله ورسوله ثم تلا عليهم هذه الآية إن الله يأمر إلخ قالوا: ردد علينا هذا القول فردده عليه الصلاة والسلام عليهم حتى حفظوه فأتيا أكتم فأخبراه فلما سمع الآية قال: إني لأراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن مذامها فكونوا في هذا الأمر رأسا ولا تكونوا فيه أذنابا.
وقد صارت هذه الآية أيضا كما أخرج أحمد والطبراني في الأدب عن والبخاري سبب استقرار الإيمان في قلب ابن عباس عثمان بن مظعون ومحبته للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولجمعها ما جمعت أقامها حين آلت [ ص: 220 ] الخلافة إليه مقام ما كان عمر بن عبد العزيز بنو أمية غضب الله تعالى عليهم يجعلونه في أواخر خطبهم من سب كرم الله تعالى وجهه ولعن كل من بغضه وسبه وكان ذلك من أعظم مآثره رضي الله تعالى عنه، وقال غير واحد: لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية الكريمة لكفت في كونه تبيانا لكل شيء وهدى. ولعل إيرادها عقيب قوله تعالى: علي ونزلنا عليك الكتاب للتنبيه عليه فإنها إذا نظر إلى أنها قد جمعت ما جمعت مع وجازتها استيقظت عيون البصائر وتحركت للنظر فيما عداها.
وأخرج عن أحمد عثمان بن أبي العاص قال: جبريل عليه السلام فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع إن الله يأمر إلخ. كنت عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسا إذ شخص بصره فقال: أتاني
واستدل بها على أن صيغة أ م ر تتناول الواجب والمندوب وموضوعها القدر المشترك وتحقيق ذلك في الأصول.
يعظكم أي ينبهكم بما يأمر وينهى سبحانه أحسن تنبيه، وهو إما استئناف وإما حال من الضمير في الفعلين لعلكم تذكرون طلبا لأن تتعظوا بذلك وتنتبهوا.