بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم المزاء والسكر
وهو في الأصل مصدر سكر سكرا وسكرا نحو رشد رشدا ورشدا. واستشهد له بقوله:
وجاؤونا بهم سكر علينا فأجلى اليوم والسكران صاحي
وفسروا الرزق الحسن بالخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك، وإليه ذهب صاحب الكشاف وقد ذكر في توجيه إعرابها ما ذكرناه، وقدم الوجه الأول من أوجهه الثلاثة وهو ظاهر في ترجيحه وصرح به الطيبي وبينه بما بينه، وأخر الثالث وهو ظاهر في أنه دون أخويه. وفي الكشف بعد نقل كلامه في الوجه الأول فيه إضمار العصير وأنه لا يصلح عطفا في الظاهر على السابق لأنه لا يصلح بيانا للعبرة في الأنعام، وفيه أن ( تتخذون ) لا يصلح كشفا عن كنه الإسقاء كيف وقد فسر الرزق بالتمر والزبيب أيضا وأي مدخل للعصير وأين هذا البيان من البيان بقوله تعالى: ( نسقيكم ) ليجعل مدركا لترجيحه فهذا وجه مرجوح مؤول بأنه عطف على مجموع السابق، وأوثر الفعلية لمكان قربه من ( نسقيكم ) وقوله تعالى الحسن تتخذون منه سكرا تم البيان عنده ثم أتي بفائدة زائدة، وأظهر الأوجه ما ذكر آخرا أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخدون ليكون عطفا للاسمية على الاسمية أعني قوله تعالى: وإن لكم في الأنعام لعبرة ولما لم يكن العبرة فيه كالأول اكتفي بكونه عطفا على ما هو عبرة ولم يصرح، وأفيد بالتبعيض [ ص: 180 ] أن من ثمراتها ما يؤكل قبل الإدراك وما يتلف ويأكل الوحوش وغير ذلك اه، وما ذكره في التأويل من بيان البيان عند سكرا محوج إلى جعل ( رزقا ) معمولا لعامل آخر ولا يخفى بعده، والظاهر أنه لا ينكره، وما ذكره من الوجه الأظهر ذكره كصاحبه، ولا يرد عليه أن فيه حذف الموصوف بالجملة لأن ذلك إذا كان الموصوف بعضا من مجرور من أو في المقدم عليه مطرد نحو منا أقام ومنا ظعن أراد فريق، وقد يحذف موصوفا بالجملة في غير ذلك كقول الراجز: الحوفي
ما لك عندي غير سهم وحجر وغير كبداء شديد الوتر
جادت بكفي كان من أرمى البشر
وأنت تعلم أن تقدير العصير على الوجه الأول عند من يراه لازم، وتقديره على الوجه الثاني جائز عند ذاك أيضا ولا يجوز عند المعترض. واختار تعليقه بخلق لكم أو جعل وليس بذاك، وقيل: إنه معطوف على الأنعام على معنى ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة (وتتخذون) بيان لها وهو غير الوجه الذي استظهره صاحب الكشف وكان الظاهر- في- بدل من وضمير ( منه ) لا يتعين فيه ما سمعت كما لا يخفى عليك بعد أن أحطت خبرا بما قيل في ضمير أبو البقاء بطونه وتفسير «السكر» بالخمر هو المروي عن ابن مسعود وابن عمر وأبي رزين والحسن ومجاهد والشعبي والنخعي وابن أبي ليلى وأبي ثور والكلبي مع خلق آخرين، والآية نزلت في وابن جبير مكة والخمر إذ ذاك كانت حلالا يشربها البر والفاجر وتحريمها إنما كان بالمدينة اتفاقا واختلفوا في أنه قبل أحد أو بعدها والآية المحرمة لها يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ بها، وروى ذلك غير واحد ممن تقدم كالنخعي وأبي ثور وقيل: نزلت قبل ولا نسخ بناء على ما روي عن وابن جبير، أن «السكر» هو الخل بلغة ابن عباس الحبشة أو على ما نقل عن أن «السكر» المطعوم المتفكه به كالنقل وأنشده: أبي عبيدة
جعلت أعراض الكرام سكرا وتعقب بأن كون السكر في ذلك بمعنى الخمر أشبه منه بالطعام، والمعنى أنه لشغفه بالغيبة وتمزيق الأعراض جرى ذلك عنده مجرى الخمر المسكرة، وكأنه لهذا قال : إن قول الزجاج لا يصح، وفيه أن المعروف في الغيبة جعلها نقلا ولذا قيل: الغيبة فاكهة القراء، وإلى عدم النسخ ذهب الحنفيون وقالوا: المراد بالسكر ما لا يسكر من الأنبذة، واستدلوا عليه بأن الله تعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك ولا يقع الامتنان إلا بمحلل فيكون ذلك دليلا على جواز أبي عبيدة [ ص: 181 ] من النبيذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز وعضدوا هذا من السنة بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « شرب ما دون المسكر » أخرجه حرم الله تعالى الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر من كل شراب وإلى حل الدارقطني، ذهب شرب النبيذ ما لم يصل إلى الإسكار : إبراهيم النخعي وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه وسفيان الثوري وهو من تعلم وكان عليه الرحمة يشربه كما ذكر ذلك في تفسيره القرطبي والبيضاوي بعد أن فسر «السكر» بالخمر تردد في أمر نزولها فقال: إلا أن الآية إن كانت سابقة على تحريم الخمر فدالة على كراهيتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة، ووجه دلالتها على الكراهية بأن الخمر وقعت في مقابلة وهو مقتضى لقبحها والقبيح لا يخلو عن الكراهة وإن خلا عن الحرمة، واعترض عليه بأن تردده هنا في سبقها على تحريم الخمر ينافي ما في سورة البقرة حيث ساق الكلام على القطع أنه جزم في أول هذه السورة بأنها مكية إلا ثلاث آيات من آخرها. الحسن
وفي الكشاف بعد أن فسر «السكر» أيضا بما ذكر قال: وفيه وجهان: أحدهما أن تكون منسوخة، والثاني أن يجمع بين العتاب والمنة، ونقل صاحب الكشف أن القول بكونها منسوخة أولى الأقاويل، ثم قال: وفي الآية دليل على قبح تناولها تعريضا من تقييد المقابل بالحسن، وهذا وجه من ذهب إلى أنه جمع بين العتاب والمنة، وعلى الأول يكون رمزا إلى أن السكر وإن كان مباحا فهو مما يحسن اجتنابه اه. واستدل ابن كمال على نزولها قبل التحريم أن المقام لا يحتمل العتاب فإن مساق الكلام على ما دل عليه سياقه ولحاقه في تعداد النعم العظام، وذكر أن كلام ومن تبعه ناشئ عن الغفلة عن هذا، ولعل عدم وصف «السكر» بما وصف به ما بعده لعلم الله تعالى أنه سيكون رجسا يحكم الشرع بتحريمه. وجوز الزمخشري أن يجعل السكر رزقا حسنا كأنه قيل: تتخذون منه ما هو مسكر ورزق حسن أي على أن العطف من عطف الصفات. وأنت تعلم أن العطف ظاهره المغايرة. الزمخشري
هذا ولما كان اللبن نعمة عظيمة لا دخل لفعل الخلق فيه أضافه سبحانه لنفسه بقوله تعالى: نسقيكم بخلاف اتخاذ السكر وقد صرح بذلك في البحر فتأمل إن في ذلك لآية باهرة لقوم يعقلون يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل بالآيات فالفعل منزل منزلة اللازم، قال : ولما كان مفتتح الكلام أبو حيان وإن لكم في الأنعام لعبرة ناسب الختم بقوله سبحانه:- يعقلون- لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول. وأنا أقول: إذا كان في الآية إشارة إلى الحط من أمر السكر ففي الختم المذكور تقوية لذلك وله في النفوس موقع وأي موقع حيث إن العقار كما قيل للعقول عقال:
إذا دارها بالأكف السقاة لخطابها أمهروها العقولا
فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك