وبرزوا لله جميعا أي يبرزون يوم القيامة وإيثار الماضي لتحقق الوقوع أو لأنه لا مضي ولا استقبال بالنسبة إليه سبحانه والمراد ببروزهم لله ظهورهم من قبورهم للرائين لأجل حساب الله تعالى فاللام للتعليل وفي الكلام حذف مضاف وجوز أن تكون اللام صلة البروز وليس هناك حذف مضاف ولا يراد له عز شأنه عند أنفسهم وعلى زعمهم فإنهم كانوا يظنون عند ارتكابهم الفواحش سرا أنها تخفى على الله تعالى فإذا كان يوم القيامة انكشفوا له تعالى عند أنفسهم وعلموا أنه لا تخفى عليه جل شأنه خافية وقال : معنى برزوا صاروا بالبراز وهي الأرض المتسعة فاستعير ذلك لمجمع يوم القيامة وهذا ميل إلى التعليل والحذف ونقل ابن عطية الإمام عن الحكماء في تأويل البروز أن النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء وبقيت مجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها وذلك هو البروز لله تعالى وهو كلام تعده العرب من الأحاجي ولذا لم يلتفت إليه المحدثون .
وقرأ رضي الله تعالى عنهما ( وبرزوا ) مبنيا للمفعول وبتشديد الراء والمراد أظهرهم الله تعالى وأخرجهم من قبورهم لمحاسبته زيد بن علي فقال الضعفاء جمع ضعيف والمراد بهم ضعاف الرأي وهم الأتباع وكتب في المصحف العثماني بواو قبل الهمزة ووجه ذلك بأنه على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو ونظيره علماء بني إسرائيل ورد ذلك الجعبري قائلا : إنه ليس من لغة العرب ولا حاجة للتوجيه بذلك لأن الرسم سنة متبعة وزعم أنه لغة ضعيفة ولو وجه بأنه إتباع للفظه في الوقت فإن من القراء من يقف في مثل ذلك بالواو كان حسنا صحيحا كذا ذكر فليراجع ولعل من أنصف لا يرى أحسن من ترك التوجيه . ابن قتيبة
للذين استكبروا أي لرؤسائهم الذين استتبعوهم واستغووهم إنا كنا في الدنيا لكم تبعا في تكذيب الرسل عليهم السلام والإعراض عن نصائحهم وهو جمع تابع كخادم وخدم وغايب وغيب أو [ ص: 206 ] اسم جمع لذلك ولم يذكر كونه جمعا في البحر أو هو مصدر نعت به مبالغة أو بتأويل أو بتقدير مضاف أي تابعين أو ذوي تبع وبه على سائر الاحتمالات يتعلق الجار والمجرور والتقديم للحصر أي تبعا لكم لا لغيركم .
وقيل : المعنى إنا تبع لكم لا لرأينا ولذا سماهم الله تعالى ضعفاء ولا يلزم منه كون الرؤساء أقوياء الرأي حيث ضلوا وأضلوا ولو حمل الضعف على كونهم تحت أيديهم وتابعين لهم كان أحسن وليس بذاك .
فهل أنتم مغنون عنا استفهام أريد به التوبيخ والتقريع والفاء للدلالة على سببية الاتباع للإغناء وهو من الغناء بمعنى الفائدة وضمن معنى الدفع ولذا عدي بعن أي إنا اتبعناكم فيما كنتم فيه من الضلال فهل أنتم اليوم دافعون عنا من عذاب الله من شيء أي بعض الشيء الذي هو عذاب الله تعالى بناء على ما قيل : إن ( من ) الثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول للوصف السابق والأولى للبيان وهي واقعة موقع الحال من مجرور الثانية لأنها لو تأخرت كانت صفة له وصفة النكرة إذا قدمت أعربت حالا واعترض هذا الوجه بأن فيه تقديم ( من ) البيانية على ما تبينه وهو لا يجوز وكذا تقديم الحال على صاحبها المجرور .
وأجيب بأن في كل من هذين الأمرين اختلافا وقد أجاز جماعة تقديم ( من ) البيانية وصحح ذلك لأنه إنما يفوت بالتقديم الوصفية لا البيانية وكذا أجاز كثير كابن كيسان وغيره تقديم الحال على صاحبها المجرور فلعل الذاهب إلى هذا الوجه في الآية يرى رأي المجوزين لكل من التقديمين .
وقال بعض المدققين : جاز تقديم هذه الحال لأنها في الحقيقة عما سد مسده من شيء أعني بعض لا عن المجرور وحده وفيه من البعد ما لا يخفى وجوز أن تكون الأولى والثانية للتبعيض والمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله تعالى والإعراب كما سبق واختار بعضهم على هذا كون الحال عما سد مسده من شيء إذ لو جعل حالا عن المجرور لآل الكلام إلى هل أنتم مغنون عنا بعض بعض عذاب الله تعالى ولا معنى له وفيه أنه يفيد المبالغة في عدم الغناء كقولهم : أقل من القليل فنفي المعنى لا معنى له ولا يصح الإلغاء إذ لا يصح أن يتعلق بفعل ظرفان من جنس دون ملابسة بينهما تصحح التبعية وجعل الثاني بدلا من الأول يأباه كما في الكشف اللفظ والمعنى وقد تعقب توجيه التبعيض في المكانين كما سمعت بأن ذلك يقتضي البداية فيكون بدل عام من خاص لأن أبو حيان من شيء أعم من قوله : من عذاب وهذا لا يقال : لأن بعضية الشيء مطلقة فلا يكون لها بعض ومما ذكرنا يعلم ما فيه .
وجوز أن تكون الأولى مفعولا والثانية صفة مصدر سادة مسده والشيء عبارة عن إغناء ما أي فهل أنتم مغنون عنا بعض عذاب الله بعض الإغناء وتعقب بأنه يلزم على هذا أن يتعلق بعامل ظرفان إلى آخر ما سمعت آنفا وفيه نظر لأنه لكون أحدهما في تأويل المفعول به والآخر في تأويل المفعول المطلق صح التعلق ولم يكونا من جنس واحد وقد يقال : إن تقييد الفعل الثاني بعد اعتبار تقييده بالأول فليس العامل واحدا .
ونص الحوفي على أن ( من ) الثانية زائدة للتوكيد وسوغ زيادتها تقدم الاستفهام الذي هو هنا في معنى النفي و وأبو البقاء من عذاب الله إما متعلق بمغنون أو متعلق بمحذوف وقع حالا من شيء أي شيئا كائنا من عذاب الله تعالى أو مغنون من عذاب الله تعالى غناء ما قالوا أي المتكبرون جوابا عن توبيخ الضعفاء وتقريعهم واعتذارا عما فعلوا بهم : لو هدانا الله إلى الإيمان ووفقنا له لهديناكم ولكن [ ص: 207 ] ضللنا فضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترنا لأنفسنا وحاصله على ما قيل : إن ما كان منا في حقكم هو النصح لكن قصرنا في رأينا وقال : إنهم وركوا الذنب في ضلالهم وإضلالهم على الله تعالى وكذبوا في ذلك ويدل على وقوع الكذب من أمثالهم يوم القيامة قوله تعالى حكاية عن المنافقين : الزمخشري يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء وقد خالف في ذلك أصول مشايخه لأنهم لا يجوزون صدور الكذب عن أهل القيامة فلا يقبل منه وجوز أن يكون المعنى لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان ونقل ذلك القاضي وزيفه كما ذكره الإمام وقيل : المعنى لو هدانا الله تعالى إلى الرجعة إلى الدنيا فنصلح ما أفسدناه لهديناكم وهو كما ترى وقال الجياني وأبو مسلم : المراد لو هدانا الله تعالى إلى طريق الخلاص من العقاب والوصول إلى النعيم والثواب لهديناكم إلى ذلك وحاصله لو خلصنا لخلصناكم أيضا لكن لا مطمع فيه لنا ولكم قال الإمام : والدليل على أن المراد من الهدى هو هذا أنه الذي طلبوه والتمسوه .
سواء علينا أجزعنا مما لقينا أم صبرنا على ذلك و سواء اسم بمعنى الاستواء مرفوع على الخبرية للفعل المذكور بعده لأنه مجرد عن النسبة والزمان فحكمه حكم المصدر والهمزة و ( أم ) قد جردتا عن الاستفهام لمجرد التسوية ولذا صارت الجملة خبرية فكأنه قيل : جزعنا وصبرنا سواء علينا أي سيان وإنما أفرد الخبر لأنه مصدر في الأصل وقال في مثله : إن الرضي سواء خبر مبتدأ محذوف أي الأمران سواء ثم بين الأمران بقولهم : أجزعنا أم صبرنا وما قيل : من أن سواء خبر مبتدأ محذوف والجملة جزاء للجملة المذكورة بعد لتضمنها معنى الشرط وإفادة همزة الاستفهام معنى إن لاشتراكهما في الدلالة على عدم الجزم والتقدير إن جزعنا أم صبرنا فالأمران سيان فتكلف كما لا يخفى والجزع حزن يصرف عما يراد فهو حزن شديد وفي البحر هو عدم احتمال الشدة فهو نقيض الصبر وإنما أسندوا كلا من الجزع والصبر واستوائهما إلى ضمير المتكلم المنتظم للمخاطبين أيضا مبالغة في النهي عن التوبيخ بإعلامهم أنهم شركاء لهم فيما ابتلوا به وتسلية لهم .
وجوز أن يكون هذا من كلام الفريقين فهو مردود إلى ما سيق له الكلام وهم الفريقان ونظر إلى القرب كما قيل في قوله تعالى : ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأيد ذلك بما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني عن وابن مردويه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما يظن أنه قال : كعب بن مالك سواء علينا أجزعنا أم صبرنا الآية وإلى كون هذه المحاورة بين الضعفاء والمستكبرين في النار ذهب بعضهم ميلا لظواهر الأخبار . يقول أهل النار : هلموا فلتصبروا فيصبرون خمسمائة عام فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا : هلموا فلنجزع فيبكون خمسمائة عام فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا :
واستظهر أنها في موضع العرض وقت البروز بين يدي الله تعالى وقول الأتباع : أبو حيان فهل أنتم مغنون عنا جزع منهم وكذا جواب الرؤساء باعترافهم بالضلال واحتمال أنه من كلام الأولين فقط خلاف الظاهر جدا وقوله تعالى : ما لنا من محيص . (21) . جملة مفسرة لإجمال ما فيه الاستواء فلا محل لها من الإعراب أو حال مؤكدة أو بدل منه والمحيص من حاص حاد وفر وهو إما اسم مكان كالمبيت والمصيف أو مصدر ميمي كالمغيب والمشيب والمعنى ليس لنا محل ننجو فيه من عذابه أو لا نجاة لنا من ذلك