حتى إذا جاء أمرنا غاية لقوله سبحانه: (يصنع الفلك) و (حتى) إما جارة متعلقة به، و (إذا) لمجرد الظرفية، وإما ابتدائية داخلة على الشرط وجوابه، والجملة لا محل لها من الإعراب، وحال ما وقع في البين قد مرت الإشارة إليه، والأمر إما واحد الأوامر بركوب السفينة أو بالفوران أو للسحاب بالإرسال، أو للملائكة عليهم السلام بالتصرف فيما يراد، أو نحو ذلك، وإما واحد الأمور وهو الشأن، أعني نزول العذاب بهم وفار التنور أي نبع منه الماء وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها وفيه من الاستعارة ما لا يخفى، والمراد من التنور تنور الخبز عند الجمهور، وكان على ما روي عن الحسن تنورا ومجاهد لحواء تخبز فيه ثم صار لنوح عليه السلام وكان من حجارة، وقيل: هو تنور في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وجاء ذلك في رواية عن كرم الله تعالى وجهه، وقيل: تنور علي بالهند، وقيل: بعين وردة من أرض الجزيرة العمرية أو من أرض الشام، وقيل: ليس المراد به تنورا معينا بل الجنس، والمراد فار الماء من التنانير وفي ذلك من عجيب القدرة ما لا يخفى، ولا تنافي بين هذا وقوله سبحانه: وفجرنا الأرض عيونا إذ يمكن أن يكون التفجير غير الفوران فحصل الفوران للتنور والتفجير للأرض، أو يراد بالأرض أماكن التنانير ووزنه تفعول من النور وأصله تنوور فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها ثم حذفت تخفيفا ثم شددت النون عوضا عما حذف، ونقل هذا عن وقال ثعلب، وزنه فعول، وقيل: على هذا أنه أعجمي ولا اشتقاق له ومادته تنر وليس في كلام العرب نون قبل راء ونرجس معرب أيضا، والمشهور أنه مما اتفق فيه لغة أبو علي الفارسي: العرب والعجم كالصابون والسمور. وعن ابن عباس وعكرمة أن التنور وجه الأرض هنا، وعن والزهري أنه أشرف موضع منها أي أعلاه وأرفعه، وأخرج قتادة ابن جرير وغيرهما عن وأبو الشيخ كرم الله تعالى وجهه أنه تنوير الصبح، والظاهر أنه لم يستعمل في اللغة العجمية بهذه المعاني الأخيرة، وجوز أن يكون فوران التنور عن ظهور العذاب وشدة الهول، وهذا كما جاء في الخبر حمي الوطيس مجازا عن شدة الحرب، وليس بين الجملتين كثير فرق في المعنى، وهو معنى حسن بعيد عما جاءت به الأخبار، علي قلنا احمل فيها أي في الفلك وأنث الضمير لأنه بمعنى السفينة، والجملة استئناف أو جواب إذا من كل أي من كل نوع من الحيوانات ينتفع به الذين ينجون من الغرق وذراريهم بعد ولم تكن العادة جارية بخلقه من غير ذكر وأنثى [ ص: 53 ] والجار والمجرور متعلق –باحمل- أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله أعني قوله سبحانه: زوجين وهو تثنية زوج، والمراد به الواحد المزدوج بآخر من جنسه فالذكر زوج للأنثى كما هي زوج له، وقد يطلق على مجموعهما، وليس بمراد وإلا لزم أن يحمل من كل صنف أربعة ولئلا يراد ذلك وصف بقوله تعالى: (اثنين) وحاصل المعنى احمل ذكرا وأنثى من كل نوع من الحيوانات، وقرأ الأكثرون من كل زوجين بالإضافة، فاثنين على هذا مفعول احمل و من كل زوجين حال منه ولو أخر لكان صفة له أي احمل اثنين من كل زوجين أي صنف ذكر وصنف أنثى، وقيل: (من) زائدة وما بعدها مفعول احمل و (اثنين) نعت لزوجين بناء على جواز زيادة (من) في الموجب ثم ما ذكرناه في تفسير العموم هو الذي مال إليه البعض وأدرج فيه أناس الهوام والطير، وذكر أنه روي أنه عليه السلام جعل للسفينة ثلاثة بطون وحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعل معترضا بين الرجال والنساء وكان حمله بوصية منه عليه السلام وتوارثها ولده حتى وصلت إلى نوح عليه السلام، ويعارض هذا التقسيم ما روي أن الطبقة السفلى للوحش والوسطى للطعام والعليا له عليه السلام ولمن آمن، وتوسع بعضهم في العموم فأدرج فيه ما ليس من جنس الحيوان، وأيد بما أخرجه وغيره عن إسحاق بن بشر كرم الله تعالى وجهه مرفوعا علي أن نوحا عليه السلام حمل معه في السفينة من جميع الشجر، وبما أخرجه عن أبو الشيخ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما قال: أمر نوح عليه السلام أن يحمل معه من كل زوجين اثنين فحمل من التمر العجوة واللون.
وأخرج عن النسائي أن أنس بن مالك نوحا عليه السلام نازعه الشيطان في عود الكرم فقال: هذا لي، وقال نوح: هو لي فاصطلحا على أن لنوح ثلثها وللشيطان ثلثيها ولا يكاد يعول على مثل هذه الأخبار عند التنقير ومما يحمل معها في سفينة ما أخرج عن أبو الشيخ رضي الله تعالى عنهما قال: تأذى أهل السفينة بالفأر فعطس الأسد فخرج من منخريه سنوران ذكر وأنثى، فأكلا الفأر إلا ما أراد الله تعالى أن يبقى منه، وتأذوا بأذى أهل السفينة فعطس الفيل فخرج من منخريه خنزيران ذكر وأنثى فأكلا أذى أهل السفينة، وفي رواية ابن عباس في نوادر الأصول الحكيم الترمذي وغيرهما عنه أن وابن جرير نوحا عليه السلام شكا إلى الله تعالى قرض الفأر حبال السفينة فأوحى الله إليه فمسح جبهة الأسد فخرج سنوران، وشكا عذرة في السفينة فأوحى إليه سبحانه، فمسح ذنب الفيل فخرج خنزيران فأكلا العذرة.
وأخرج من طريق ابن أبي حاتم عن أبيه مرفوعا زيد بن أسلم أن أهل السفينة شكوا الفأرة فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا فأوحى الله تعالى إلى الأسد فعطس فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها، ولم يذكر فيه بحث الخنزير، ويفهم منها على ما فيها أن الهرة لم تكن عند الحمل، ومن الأولين أنها والخنزير لم يكونا، وفي بعض الآثار ما يخالفه، فقد أخرج في الزهد أحمد عن وأبو الشيخ قال لما أمر الله تعالى وهب بن منبه نوحا عليه السلام بالحمل قال: كيف أصنع بالأسد والبقرة؟ وكيف أصنع بالعناق والذئب؟ وكيف أصنع بالحمام، والهر؟ فقال الله تعالى: من ألقى بينهما العداوة؟ قال: أنت يا رب، قال: فإني أؤلف بينهم حتى لا يتضاروا، ولا يخفى ما بين هذا وبين التقسيم الأول أيضا، وجاء في شأن الأسد روايات مختلفة: ففي رواية أن أصحابه عليه السلام قالوا: كيف نطمئن ومعنا الأسد؟ فسلط الله تعالى عليه الحمى، وكانت أول حمى نزلت الأرض [ ص: 54 ] وفي رواية أنه كان يؤذيهم في السفينة فألقيت عليه الحمى ليشتغل بنفسه، وفي أخرى أنه عليه السلام حين أمر بالحمل قال: يا رب كيف بالأسد والفيل؟ فقال له سبحانه: سألقي عليهما الحمى وهي ثقيلة، وفي أخرى عن أنه عليه السلام حين أمر بالحمل لم يستطع أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى فحمله فأدخله، ولا يخفى أنها دلالة بعضها على أن إلقاء الحمى قبل الدخول وبعضها على أنه بعده، وكان يغني عن إلقائها بعد دفعا لإذاء التأليف بينه وبين الإنسان كما ألف بين ما مر بعضه مع بعض، ولعل لدفع الأذى بالحمى دون التأليف إن صح ذلك حكمة لكنها غير ظاهرة لنا، وجاء في بعض الآثار ما يفهم منه أنه كان معه عليه السلام في السفينة من الجن ما كان، وفي بعضها أن إبليس عليه اللعنة كان أيضا. أبي عبيدة
فعن لما أراد الله تعالى أن يدخل الحمار السفينة أخذ ابن عباس نوح بأذني الحمار، وأخذ إبليس بذنبه فجعل نوح يجذبه وجعل إبليس يجذبه، فقال نوح عليه السلام: ادخل شيطان فدخل الحمار ودخل إبليس معه، فلما سارت السفينة جلس في ذنبها يتغنى فقال له نوح: ويلك من أذن لك؟ قال: أنت، قال: متى؟ قال: إذ قلت للحمار: ادخل شيطان فدخلت بإذن منك، وفي رواية أخرى عنه أن نوحا عليه السلام قال للحمار: ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك كلمة جرت على لسان فدخل معه الشيطان.
وأخرج عن ابن عساكر أن اللعين جاء ليركب السفينة فدفعه عطاء نوح عليه السلام فقال: يا نوح إني منظور ولا سبيل لك علي، فعرف أنه صادق فأمره أن يجلس على خيزران السفينة وهو بظاهره مخالف لما روي عن واختلفوا في أنه كيف جمعت الحيوانات على تفرقها في أكناف الأرض، فقيل: إنها أحست بالعذاب فاجتمعت، وعن ابن عباس، أن الله تعالى بعث ريحا فحمل إليه من كل زوجين اثنين من الطير والسباع والوحش والبهائم. الزهري
وعن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام فحشرها فجعل عليه السلام يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيدخلهما السفينة حتى أدخل عدة ما أمر الله تعالى به، وروى وغيره عن إسحاق بن بشر أنه استعصت عليه عليه السلام الماعزة فدفعها في ذنبها فمن ثم انكسر وبدا حياها ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على ذنبها فستر حياها. زيد بن ثابت
وفي كتب الأخبار كثير من هذه الآثار التي يقتضي منها العجب، وأنا لا أعتقد سوى أن الله عزت قدرته خلق الماعزة والنعجة من قبل على ما هما عليه اليوم وأنه سبحانه لم يخلق الهرة من الأسد وإن أشبهته صورة، ولا الخنزير من الفيل وإن كان بينهما شبه ما كما شاهدناه عام مجيء الفيل إلى بغداد، ولو كلف الفيل أكل العذرة لكان أحب إلى أهل السفينة من زيادة خنزير فيها، وأحب من ذلك كله إليهم أن لا يكون في السفينة غيرهم أو يكون حيوان واحد يخلق لهم من عطاسه ما يريدونه من الحيوانات ويحتاجون إليه بعد.
والذي يميل القلب إليه أن الطوفان لم يكن عاما كما قال به البعض، وأنه عليه السلام لم يؤمر بحمل ما جرت العادة بتكونه من عفونة الأرض كالفأر والحشرات بل أمر بحمل ما يحتاج إليه إذا نجا ومن معه من الغرق لئلا يغتنموا لفقده ويتكلفوا مشقة جلبه من الأصقاع التي لم يصلها الغرق، فكأنه قيل: قلنا احمل فيها من كل ما تحتاجونه إذا نجوتم زوجين اثنين وإن قلنا بعموم الغرق نقول أيضا: إنه عليه السلام لم يكلف بحمل شيء من المتكونات من العفونة بل كلف بالحمل مما يتناسل من الحيوانات لمصلحة بقاء النوع، وكانت السفينة بحيث [ ص: 55 ] تسع ذلك عادة أو معجزة وقدرة الله تعالى أجل من أن تضيق عن ذلك، وإن قيل بالعموم على وجه يبقى معه بعض الجبال جاز أن يقال: عليه السلام لم يحمل إلا مما لا مهرب له ويضر فقده بجماعته، ولو قيل: إن العموم على إطلاقه وأنه عليه السلام لم يحمل في السفينة إلا ما تتسع له عادة مما يحتاج إليه لئلا يضيق أصحابه ذرعا بفقده بالكلية حسبما تقتضيه الطباع البشرية وغرق ما عدا ذلك لكن الله تعالى جلت قدرته خلق نظير ما غرق بعد على الوجه الذي فعل قبل لم يكن ذلك بدعا ممن أمره بين الكاف والنون جل شأنه وعظم سلطانه.
هذا وإنما قدم ذلك على أهله وسائر المؤمنين قيل: لكونه عريقا بالحمل المأمور به لأنه يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام في تمييز بعض عن بعض وتعيين الأزواج، وأما البشر فإنما يدخل الفلك باختياره فيخف فيه معنى الحمل، أو لأن ذلك إنما يحمل بمباشرة البشر وهم إنما يدخلونها بعد حملهم إياه، ويجوز أن يكون التقديم حفظا للنظم الكريم عن الانتشار وأياما كان فقوله سبحانه: (وأهلك) عطف على زوجين أو على اثنين، والمراد بأهله على ما في بعض الآثار امرأته المسلمة وبنوه منها وهم سام عليه السلام وهو أبو العرب وأصله على ما قال البكري: بالشين المعجمة، وحام وهو أبو السودان، قيل: إنه أصاب زوجته في السفينة فدعا نوح عليه السلام أن تغير نطفته فغيرت. وأخرجه ابن المنذر من طريق وابن أبي حاتم عن ابن جريج أبي صالح، ويافث كصاحب وهو أبو الترك ويأجوج ومأجوج وزوجة كل منهم إلا من سبق عليه القول بأنه من المغرقين لظلمهم، وذلك في قوله سبحانه: ولا تخاطبني في الذين ظلموا الآية، والمراد زوجة له أخرى تسمى واعلة بالعين المهملة، وفي رواية والقة وابنه منها كنعان وكان اسمه فيما قيل: يام وهذا لقبه عند أهل الكتاب وكانا كافرين، وفي هذا دلالة على أن الأنبياء عليهم السلام يحل لهم نكاح الكافرة بخلاف نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لقوله تعالى: يا أيها النبي إنا أحللنا لك الآية، والاستثناء جوز أن يكون متصلا إن أريد بالأهل الأهل إيمانا، وأن يكون منقطعا إن أريد به الأهل قرابة، ويكفي في صحة الاستثناء المعلومية عند المراجعة إلى أحوالهم والتفحص عن أعمالهم، وجيء بعلى لكون السابق ضارا لهم كما جيء باللام فيما هو نافع في قوله تعالى: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين وقوله سبحانه: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ، ومن آمن عطف على الأهل أي والمؤمنين من غيرهم، وإفراد أولئك منهم للاستثناء المذكور وإيثار صيغة الإفراد في آمن محافظة على لفظ (من) للإيذان بالقلة كما أفصح عن ذلك قوله تعالى: وما آمن معه إلا قليل .
قيل: كانوا سبعة زوجته وأبناؤه الثلاثة وكنائنه الثلاث، وروي هذا عن قتادة، والحكم بن عقبة وابن جريج، ويرده عطف ومحمد بن كعب، ومن آمن على الأهل إلا أن يكون الأهل بمعنى الزوجة فإنه قد ثبت بهذا المعنى، لكن قيل: إنه خلاف الظاهر، والاستثناء عليه منقطع أيضا، وعن أنهم كانوا عشرة؛ خمسة رجال وخمس نسوة، وعنه أنهم كانوا مع ابن إسحاق نوح عليه السلام عشرين نصفهم رجال ونصفهم الآخر نساؤهم، وقيل: كانوا ثمانية وسبعين نصفهم ذكور ونصفهم إناث، وقيل: كانوا ثمانين رجلا وثمانين امرأة، وقيل: وقيل والرواية الصحيحة أنهم كانوا تسعة وسبعين؛ زوجته وبنوه الثلاثة ونساؤهم واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم من بني شيث، واعتبار المعية في الإيمان للإيماء إلى المعية في مقر الإيمان والنجاة.
(وقال) أي نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين كما ينبئ عنه قوله تعالى: إن ربي لغفور رحيم [ ص: 56 ] وقيل: الضمير لله تعالى، وفيه أنه لو كان كذلك لكان المناسب إن ربكم إلخ.. ولعل هذا القول بعد إدخال ما أمر بحمله في الفلك من الأزواج كأنه قيل: فحمل الأزواج حسبما أمر أو أدخلها في الفلك.