إلى الملك القرم وابن الهمام
البيت، وفائدة العطف التنصيص بأنهم يعلمون ما هو جامع بين كونه سحرا وبين كونه منزلا على الملكين للابتلاء، فيفيد ذمهم بارتكابهم النهي بوجهين، وقد يراد بالموصول المعهود، وهو نوع آخر أقوى، فيكون من عطف الخاص على العام إشارة إلى كماله، وقال مجاهد : هو دون السحر، وهو ما يفرق به بين المرء وزوجه لا غير، والمشهور الأول، وجوز العطف على ما (تتلو)، فكأنه قيل : اتبعوا السحر المدون في الكتب وغيره، وهذان الملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله تعالى للناس، فمن تعلم وعمل به كفر، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء، كما امتحن قوم طالوت بالنهر، وتمييزا بينه وبين المعجزة، حيث إنه كثر في ذلك الزمان، وأظهر السحرة أمورا غريبة وقع الشك بها في النبوة، فبعث الله تعالى الملكين لتعليم أبواب السحر، حتى يزيلا الشبه ويميطا الأذى عن الطريق، قيل : كان ذلك في زمن إدريس عليه السلام، وأما ما روي أن الملائكة تعجبت من بني آدم في مخالفتهم ما أمر الله تعالى به وقالوا له تعالى : لو كنا مكانهم ما عصيناك، فقال : اختاروا ملكين منكم فاختاروهما، فهبطا إلى الأرض، ومثلا بشرين، وألقى الله تعالى عليهما الشبق، وحكما بين الناس، فافتتنا بامرأة يقال لها زهرة، فطلباها وامتنعت إلا أن يعبدا صنما، أو يشربا خمرا، أو يقتلا [ ص: 341 ] نفسا، ففعلا، ثم تعلمت منهما ما صعدت به إلى السماء، فصعدت ومسخت هذا النجم، وأرادا العروج فلم يمكنهما، فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة، فاختاروا عذاب الدنيا، فهما الآن يعذبان فيها، إلى غير ذلك من الآثار التي بلغت طرقها نيفا وعشرين، فقد أنكره جماعة منهم وذكر أن ما ذكره أهل الأخبار، ونقله المفسرون في قصة هاروت وماروت لم يرد منه شيء لا سقيم ولا صحيح عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وليس هو شيئا يؤخذ بالقياس، وذكر في البحر أن جميع ذلك لا يصح منه شيء، ولم يصح أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يلعن الزهرة، القاضي عياض، رضي الله تعالى عنهما خلافا لمن رواه، وقال الإمام وابن عمر بعد أن ذكر الرواية في ذلك: إن هذه الرواية فاسدة مردودة غير مقبولة، ونص الرازي الشهاب العراقي على أن من اعتقد في هاروت وماروت أنهما ملكان يعذبان على خطيئتهما مع الزهرة فهو كافر بالله تعالى العظيم، فإن الملائكة معصومون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون والزهرة كانت يوم خلق الله تعالى السماوات والأرض، والقول بأنها تمثلت لهما فكان ما كان، وردت إلى مكانها غير معقول ولا مقبول، واعترض الإمام السيوطي على من أنكر القصة بأن الإمام أحمد وابن حبان وغيرهم رووها مرفوعة وموقوفة على والبيهقي علي، ، وابن عباس ، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم بأسانيد عديدة صحيحة، يكاد الواقف عليها يقطع بصحتها لكثرتها وقوة مخرجيها، وذهب بعض المحققين أن ما روي مروي حكاية لما قاله اليهود، وهو باطل في نفسه، وبطلانه في نفسه لا ينافي صحة الرواية، ولا يرد ما قاله الإمام وابن مسعود السيوطي عليه، إنما يرد على المنكرين بالكلية، ولعل ذلك من باب الرموز، والإشارات، فيراد من الملكين العقل النظري والعقل العملي اللذان هما من عالم القدس، ومن المرأة المسماة بالزهرة النفس الناطقة، ومن تعرضهما لها تعليمهما لها ما يسعدها، ومن حملها إياهما على المعاصي تحريضها إياهما بحكم الطبيعة المزاجية إلى الميل إلى السفليات المدنسة لجوهريهما، ومن صعودها إلى السماء بما تعلمت منهما عروجها إلى الملإ الأعلى ومخالطتها مع القدسيين بسبب انتصاحها لنصحهما، ومن بقائهما معذبين بقاؤهما مشغولين بتدبير الجسد، وحرمانهما عن العروج إلى سماء الحضرة، لأن طائر العقل لا يحوم حول حماها، ومن الأكابر من قال في حل هذا الرمز : إن الروح والعقل اللذين هما من عالم المجردات قد نزلا من سماء التجرد إلى أرض التعلق، فعشقا البدن الذي هو كالزهرة في غاية الحسن والجمال، لتوقف كمالهما عليه، فاكتسبا بتوسطه المعاصي، والشرك، وتحصيل اللذات الحسية الدنية، ثم صعد إلى السماء بأن وصل بحسن تدبيرهما إلى الكمال اللائق به، ثم مسخ بأن انقطع التعلق وتفرقت العناصر، وهما بقيا معذبين بعذاب الحرمان عن الاتصال بعالم القدس متألمين بالآلام الروحانية منكوسي الحال، حيث غلب التعلق على التجرد، وانعكس القرب بالبعد، وقيل : المقصود من ذلك الإشارة إلى أن من كان ملكا إن اتبع الشهوة هبط عن درجة الملائكة إلى درجة البهيمة، ومن كان امرأة ذات شهوة إذا كسرت شهوتها وغلبت عليها، صعدت إلى درج الملك، واتصلت إلى سماء المنازل والمراتب، وكتب بعضهم لحله:
مل وأيم الله نفسي نفسي وطال في مكث حياتي حبسي
أصبح في مضاجعي وأمسى أمسي كيومي وكيومي أمسي
يا حبذا يوم نزولي رمسي مبدأ سعدي وانتهاء نحسي
وكل جنس لاحق بالجنس من جوهر يرقى بدار الأنس
[ ص: 342 ] وعرض يبقى بدار الحس
وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر أي ما يعلم الملكان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له: إنما نحن ابتلاء من الله عز وجل، فمن تعلم منا وعمل به كفر، ومن تعلم وتوقى ثبت على الإيمان، (فلا تكفر) باعتقاده وجواز العمل به، وقيل : فلا تتعلم معتقدا إنه حق، حتى تكفر، وهو مبني على رأي الاعتزال من أن السحر تمويه، وتخييل، ومن اعتقد حقيته يكفر، (ومن) مزيدة في المفعول به، لإفادة تأكيد الاستغراق، وإفراد الفتنة مع تعدد المخبر عنه لكونها مصدرا، والحمل مواطأة للمبالغة، والقصر لبيان أنه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأن سواها، لينصرف الناس عن تعلمه، (وحتى) للغاية، وقيل : بمعنى إلا، والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير (يعلمون)، والظاهر أن القول مرة واحدة، والقول بأنه ثلاث، أو سبع، أو تسع لا ثبت له، واختلف في كيفية تلقي ذلك العلم منهما، فقال مجاهد: إنهما لا يصل إليهما أحد من الناس، وإنما يختلف إليهما شيطانان في كل سنة اختلافة واحدة فيتعلمان منهما، وقيل: وهو الظاهر : إنهما كان يباشران التعليم بأنفسهما في وقت من الأوقات، والأقرب أنهما ليسا إذ ذاك على الصورة الملكية، وأما ما أخرجه ، ابن جرير وابن أبي حاتم، وصححه، والحاكم في سننه عن والبيهقي رضي الله تعالى عنها أنها قالت : (قدمت علي امرأة من أهل عائشة دومة الجندل تبتغي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد موته، تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر، ولم تعمل به، قالت : كان لي زوج غاب عني، فدخلت على عجوز، فشكوت إليها، فقالت : إن فعلت ما آمرك أجعله يأتيك، فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين، فركبت أحدهما، وركبت الآخر، فلم يكن كشيء، حتى وقفنا ببابل، فإذا أنا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا : ما جاء بك؟ فقلت : أتعلم السحر فقالا : إنما نحن فتنة فلا تكفري، وارجعي فأبيت وقلت : لا، قالا : فاذهبي إلى ذلك التنور، فبولي به، إلى أن قالت : فذهبت فبلت فيه، فرأيت فارسا مقنعا بحديد، خرج مني حتى ذهب إلى السماء، وغاب عني، حتى ما أراه، فجئتهما، وذكرت لهما، فقالا : صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي فلن تريدي شيئا إلا كان)، الخبر بطوله، فهو ونظائره مما ذكره المفسرون من القصص في هذا الباب مما لا يعول عليه ذوو الألباب، والإقدام على تكذيب مثل هذه الامرأة الدوجندية أولى من اتهام العقل في قبول هذه الحكاية التي لم يصح فيها شيء عن رسول رب البرية صلى الله تعالى عليه وسلم، ويا ليت كتب الإسلام لم تشتمل على هذه الخرافات التي لا يصدقها العاقل، ولو كانت أضغاث أحلام، واستدل بالآية من جوز تعلم السحر، ووجهه أن فيها دلالة على وقوع التعليم من الملائكة مع عصمتهم، والتعلم مطاوع له، بل هما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار كالإيجاب [ ص: 344 ] والوجوب، ولا يخفى أنه لا دليل فيها على الجواز مطلقا، لأن ذلك التعليم كان للابتلاء والتمييز، كما قدمنا، وقد ذكر القائلون بالتحريم : إن تعلم السحر إذا فرض فشوه في صقع، وأريد تبيين فساده لهم، ليرجعوا إلى الحق غير حرام كما لا يحرم تعلم الفلسفة للمنصوب للذب عن الدين برد الشبه، وإن كان أغلب أحواله التحريم، وهذا ينافي إطلاق القول به، ومن قال : إن هاروت وماروت من الشياطين قال : إن معنى الآية ما يعلمان السحر أحدا حتى ينصحاه ويقولا : إنا مفتونان باعتقاد جوازه والعمل به، فلا تكن مثلنا في ذلك فتكفر، وحينئذ لا استدلال أصلا، وما ذكرنا أن القول على سبيل النصح في هذا الوجه هو الظاهر، وحكى المهدوي أنه على سبيل الاستهزاء لا النصيحة، وهو الأنسب بحال الشياطين، وقرأ (يعلمان) بالتخفيف من الإعلام، وعليها حمل بعضهم قراءة التشديد، وقرأ طلحة بن مصرف بإظهار الفاعل، أبي فيتعلمون منهما عطف على الجملة المنفية، لأنها في قوة المثبتة كأنه قال : يعلمانهم بعد ذلك القول فيتعلمون، وليس عطفا على المنفي بدون هذا الاعتبار، كما توهمه أبو علي من كلام ، وعطفه بعضهم على (يعلمان) محذوفا، وبعضهم على (يأتون) كذلك، والضمير المرفوع لما دل عليه (أحد) وهو الناس، أو لأحد، حملا له على المعنى، كما في قوله تعالى: الزجاج فما منكم من أحد عنه حاجزين وحكى المهدوي جواز العطف على يعلمون الناس فمرجع الضمير حينئذ ظاهر، وقيل : في الكلام مبتدأ محذوف، أي فهم يتعلمون، فتكون جملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها من عطف الاسمية على الفعلية، ونسب ذلك إلى ، وليس بالجيد، وضمير (منهما) عائد على الملكين، ومن الناس من جعله عائدا إلى السحر والكفر، أو الفتنة والسحر، وعطف (يتعلمون) على (يعلمون)، وحمل (ما يعلمان) على النفي، (وحتى يقولا) على التأكيد له، أي لا يعلمان السحر لأحد بل ينهيانه حتى يقولا إلخ، فهو كقولك : ما أمرته بكذا حتى قلت له: إن فعلت نالك كذا وكذا، وجعل (ما أنزل) أيضا نفيا معطوفا على (ما كفر)، وهو كما ترى، سيبويه ما يفرقون به بين المرء وزوجه أي الذي، أو شيئا يفرقون به، وهو السحر المزيل بطريق السببية الألفة والمحبة بين الزوجين، الموقع للبغضاء والشحناء الموجبتين للتفرق بينهما، وقيل : المراد ما يفرق لكونه كفرا، لأنه إذا تعلم كفر فبانت زوجته، أو إذا تعلم عمل فتراه الناس فيعتقدون أنه حق، فيكفرون، فتبين أزواجهم، والمرء الرجل، والأفصح فتح الميم مطلقا، وحكي الضم مطلقا، وحكي الإتباع لحركة الإعراب، ومؤنثه المرأة وقد جاء جمعه بالواو والنون فقالوا : المرؤون، والزوج امرأة الرجل وقيل : المراد به هنا القريب والأخ الملائم، ومنه من كل زوج بهيج و احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وقرأ الحسن ، والزهري (المر) بغير همز مخففا، وقتادة وابن أبي إسحاق (المرء) بضم الميم مع الهمز، والأشهب بالكسر والهمز، ورويت عن وقرأ الحسن، أيضا (المر) بالفتح وإسقاط الهمزة وتشديد الراء، الزهري وما هم بضارين به من أحد الضمير للسحرة الذين عاد إليهم ضمير (فيتعلمون)، وقيل : لليهود الذين عاد إليهم ضمير (واتبعوا)، وقيل: للشياطين، وضمير به عائد (لما)، (ومن) زائدة لاستغراق النفي كأنه قيل : وما يضرون به أحدا، وقرأ (بضاري) محذوف النون، وخرج على أنها حذفت تخفيفا، وإن كان اسم الفاعل ليس صلة لأل، فقد نص الأعمش ابن مالك على عدم الاشتراط لقوله :
ولسنا إذا تأتون سلمى بمدعي لكم غير أنا أن نسالم نسالم
هما أخوا في الحرب من لا أخاله وإن خاف يوما كبوة فدعاهما
ويتعلمون ما يضرهم لأنهم يقصدون به العمل قصدا جازما، وقصد المعصية كذلك معصية، أو لأن العلم يدعو إلى العمل، ويجر إليه لا سيما عمل الشر الذي هو هوى النفس، فصيغة المضارع للحال على الأول، وللاستقبال على الثاني، (ولا ينفعهم) عطف على ما قبله للإيذان بأنه شر بحت وضرر محض، لا كبعض المضار المشوبة بنفع وضرر، لأنهم لا يقصدون به التخلص عن الاغترار بأكاذيب السحرة، ولا إماطة الأذى عن الطريق حتى يكون فيه نفع في الجملة، وفي الإتيان (بلا) إشارة إلى أنه غير نافع في الدارين، لأنه لا تعلق له بانتظام المعاش ولا المعاد، وفي الحكم بأنه ضار غير نافع تحذير بليغ لمن ألقى السمع وهو شهيد، عن تعاطيه، وتحريض على التحرز عنه، وجوز بعضهم أن يكون (لا ينفعهم) على إضمار هو، فيكون في موضع رفع، وتكون الواو للحال، ولا يخفى ضعفه، ولقد علموا متعلق بقوله تعالى : ولما جاءهم إلخ، وقصة السحر مستطردة في البين، فالضمير لأولئك اليهود، وقيل : الضمير لليهود الذين كانوا على عهد سليمان عليه السلام، وقيل : للملكين لأنهما كانا يقولان: فلا تكفر، وأتى بضمير الجمع على قول من يرى ذلك، لمن اشتراه أي استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله، واللام للابتداء، وتدخل على المبتدإ، وعلى المضارع، ودخولها على الماضي مع قد كثير، وبدونه ممتنع، وعلى خبر المبتدإ، إذا تقدم عليه وعلى معمول الخبر إذا وقع موقع المبتدإ، والكوفيون يجعلونها في الجميع جواب القسم المقدر، وليس في الوجود عندهم لام ابتداء كما يشير إليه كلام ، وقد علقت هنا (علم) عن العمل سواء كانت متعدية لمفعول، أو مفعولين، فمن موصولة مبتدأ، واشتراه صلتها، وقوله تعالى : الرضي ما له في الآخرة من خلاق جملة ابتدائية خبرها، (ومن) مزيدة في المبتدإ، (وفي الآخرة) متعلق بما تعلق به الخبر، أو حال من الضمير فيه، أو من مرجعه، والخلاق النصيب، قاله أو القوام، قاله مجاهد، رضي الله تعالى عنهما، أو القدر، قاله ابن عباس ، ومنه قوله : قتادة
فما لك بيت لدى الشامخات وما لك في غالب من خلاق
ولبئس ما شروا به أنفسهم اللام فيه لام ابتداء أيضا، والمشهور إنها جواب القسم، والجملة معطوفة على القسمية الأولى، (وما) نكرة مميزة للضمير المبهم، في بئس، والمخصوص بالذم محذوف، (وشروا)، يحتمل المعنيين، والظاهر هو الظاهر، أي والله لبئس شيئا شروا به حظوظ أنفسهم أي باعوها، أو شروها في زعمهم ذلك الشراء، وفي البحر: بئسما باعوا أنفسهم السحر أو الكفر، لو كانوا يعلمون أي مذمومية الشراء المذكور لامتنعوا عنه، ولا تنافي بين إثبات العلم لهم أولا، ونفيه عنهم ثانيا، إما لأن المثبت لهم هو العقل الغريزي، والمنفي عنهم هو الكسب الذي هو من جملة التكليف، أو لأن الأول هو العلم بالجملة، والثاني هو العلم بالتفصيل، فقد يعلم الإنسان مثلا قبح الشيء، ثم لا يعلم أن فعله قبيح، فكأنهم علموا أن شراء النفس بالسحر مذموم، لكن لم يتفكروا في أن ما يفعلونه هو من جملة ذلك القبيح، أو لأنهم علموا العقاب، ولم يعلموا حقيقته، وشدته، وإما لأن الكلام مخرج على تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل، ووجود الشيء منزلة عدمه، لعدم ثمرته، حيث إنهم لم يعملوا بعلمهم، أو على تنزيل العالم بفائدة الخبر، ولازمها منزلة الجاهل بناء على أن قوله تعالى: لو كانوا يعلمون معناه لو كان لهم علم بذلك الشراء لامتنعوا منه، أي ليس لهم علم، فلا يمتنعون، وهذا هو الخبر الملقى إليهم، واعتراض العلامة بأن هذا الخبر لو فرض كونه ملقى إليهم فلا معنى لكونهم عالمين بمضمونه، كيف وقد تحقق في ولقد علموا نقيضه، وهو أن لهم علما به، وبعد اللتيا والتي لا معنى لتنزيلهم منزلة الجاهل، بأن ليس لهم علم بأن من اشتراه ما له في الآخرة من خلاق، بل إن كان فلا بد أن ينزلوا منزلة الجاهل بأن لهم علما بذلك، يجاب عنه : أما أولا، فبأن الخطاب صريحا للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وتعريضا لهم، ولذا أكد، وأما ثانيا فبأن المستفاد من ولقد علموا ثبوت العلم لهم حقيقة، والمستفاد من الخبر الملقى لهم نفي العلم عنهم تنزيلا، ولا منافاة بينهما، وأما ثالثا فبأن العالم إذا عمل بخلاف علمه كان عالما بأنه بمنزلة الجاهل في عدم ترتب ثمرة علمه، ومقتضى هذا العلم أن يمتنع عن ذلك العمل، ففيما نحن فيه كانوا عالمين فيه بأن ليس لهم علم، وأنهم بمنزلة الجاهل في ذلك الشراء، ومقتضى هذا العلم أن يمتنعوا عنه، وإذا لم يمتنعوا كانوا بمنزلة الجاهل في عدم جريهم على مقتضى هذا العلم، فألقى الخبر إليهم بأن ليس لهم علم مع علمهم به، كذا قيل، ولا يخفى ما فيه من شدة التكلف، وأجاب بعضهم عما يتراءى من التنافي بأن مفعول (يعلمون) ما دل عليه (لبئسما شروا) إلخ، أعني مذمومية الشراء، ومفعول (علموا) أنه لا نصيب لهم [ ص: 347 ] في الآخرة، والعلم بأنه لا نصيب لهم في الآخرة لا ينافي نفي العلم بمذمومية الشراء بأن يعتقدوا إباحته فلا حاجة حينئذ إلى جميع ما سبق، وفيه أن العلم بكون الشراء المذكور موجبا للحرمان في الآخرة بدون العلم بكونه مذموما غاية المذمومية مما لا يكاد يعقل عند أرباب العقول، والقول بأن مفعول (علموا) محذوف أي لقد علموا أنه يضرهم ولا ينفعهم، (ولمن اشتراه) مرتبط بأول القصة، وضمير (لبئسما شروا) (لمن اشتراه) ركيك جدا، وبئسما يشترى، ودفع التنافي بأنه أثبت أولا العلم بسوء ما شروه بالكتاب بحسب الآخرة، ثم ذم بالسوء مطلقا في الدين والدنيا، لأن بئس للذم العام، فالمنفي العلم بالسوء المطلق يعني لو كانوا يعلمون ضرره في الدين والدنيا لامتنعوا، إنما غرهم توهم النفع العاجل، أو بأن المثبت أولا العلم بأن ما شروه ما لهم في الآخرة نصيب منه، لا أنهم شروا أنفسهم به، وأخرجوها من أيديهم بالكلية، بل كانوا يظنون أن آباءهم الأنبياء يشفعونهم في الآخرة، والعلم المنفي هو هذا العلم لا يخفى ما فيه، أما أولا فلأن عموم الذم في بئس، وإن قيل به لكنه بالنسبة إلى إفراد الفاعل في نفسها من دون تعرض للأزمنة والأمكنة، والتزام ذلك لا يخلو عن كدر، وأما ثانيا فلأن تخصيص النصيب بمنه مع كونه نكرة مقرونة بمن، في سياق النفي المساق للتهويل مما لا يدعو إليه إلا ضيق العطن، والجواب بإرجاع ضمير (علموا) للناس، أو الشياطين، (واشتروا) لليهود ارتكاب للتفكيك من غير ضرورة تدعو إليه، ولا قرينة واضحة تدل عليه، وبعد كل حساب الأولى عندي في الجواب كون الكلام مخرجا على التنزيل، ولا ريب في كثرة وجود ذلك في الكتاب الجليل، والأجوبة التي ذكرت من قبل مع جريان الكلام فيها على مقتضى الظاهر لا تخلو في الباطن عن شيء فتدبر.