وقال المعنى: ركن إلى الأرض ظانا أنه مخلد فيها، وفسر غير واحد الأرض بالسفالة الراغب: واتبع هواه في إيثار الدنيا، وأعرض عن مقتضى تلك الآيات الجليلة، وفي تعليق الرفع بالمشيئة ثم الاستدراك عنه بفعل العبد تنبيه كما قال ناصر الدين: على أن المشيئة سبب لفعله المؤدي إلى رفعه، وأن عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة، وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة في حصول المسبب من حيث إن المشيئة تعلقت به كذلك، وكان من حقه كما قال أن يقول: ولكنه أعرض عنها، فأوقع موقعه ما ذكر مبالغة لأنه كناية أبلغ من التصريح، وتنبيها على ما حمله عليه، وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه تعالى ونسبة الانسلاخ والإخلاد إلى العبد مع أن الكل من الله تعالى إذ فيه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه، ومن هنا قال صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم: «إن الخير بيديك والشر ليس إليك».
لما رأى أن ظاهر الآية مخالف لمذهبه دال على وقوع الكائنات بمشيئة الله تعالى إلى التأويل، فجعل المشيئة مجازا عن سببها وهو لزوم العمل بالآيات بقرينة الاستدراك بما هو فعل العبد المقابل للزوم الآيات وهو الإخلاد إلى الأرض، أي: ولو لزمها لرفعناه وهو من قبيل نزع الخف قبل الوصول إلى الماء والمصير إلى المجاز قبل أوانه لجواز أن يكون لو شئنا باقيا على حقيقته و (أخلد إلى الأرض) مجازا عن سببه الذي هو عدم مشيئة الرفع بل الإخلاد، ولم يعتمد على عكازته لفوت المقابلة حينئذ، وفي الكشف أن حمل المشيئة على ما هي مسببة عنه في زعمه ليس أولى من حمل الإخلاد على ما هو مسبب عنه في زعمنا. كيف وقوله سبحانه وتعالى: والزمخشري ولو شئنا استدراك لقوله: فانسلخ منها على أن الإخلاد هو الميل، والإرادة والميل ونحوهما من المعاني ليست من أفعال العباد بالاتفاق نعم الجزم المقارن من فعل القلب فعل القلب عندهم، ثم قوله سبحانه وتعالى: من يهد الله وقوله تعالى: ولقد ذرأنا [ ص: 115 ] يؤكدان ما عليه أهل السنة أبلغ تأكيد، ولكن لا يعبأ بذلك؛ الزمخشري فمثله كمثل الكلب وهو الحيوان المعروف، وجمعه أكلب وكلاب وكلابات، كما قال ابن سيده وكليب كعبيد وهو قليل، ويجمع أكلب على أكالب، وبه يضرب المثل في الخساسة؛ لأنه يأكل العذرة ويرجع في قيئه، والجيفة أحب إليه من اللحم الغريض، نعم وهو أحسن من الرجل السوء، ومما ينسب إلى رضي الله تعالى عنه: الشافعي
ليت الكلاب لنا كانت مجاورة وليتنا ما نرى ممن نرى أحدا إن الكلاب لتهدا في مرابضها
والناس ليس بهاد شرهم أبدا
وفي شعب الإيمان للبيهقي عن الفقيه منصور أنه كان ينشد لنفسه:
الكلب أحسن عشرة وهو النهاية في الخساسة
ممن ينازع في الرياسة قبل أوقات الرياسة
والمثل بمعنى الصفة كما قال غير واحد فصفته كصفة الكلب، وقيل المراد: أنه كالكلب في الخسة إن تحمل عليه أي: شددت عليه وطردته يلهث. أو تتركه على حاله يلهث أي: إنه دائم اللهث على كل حال، واللهث إدلاع اللسان بالنفس الشديد؛ وذلك طبع في الكلب لا يقدر على نغص الهواء المتسخن وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبه وانقطاع فؤاده بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى النفس الشديد ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء، وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية بأن يقال: فصار مثله كمثل إلخ للإيذان بدوام اتصافه بتلك الحالة الخسيسة وكمال استمراره عليها، والخطاب في فعلي الشرط لكل أحد ممن له حظ من الخطاب فإنه أدخل في إشاعة فظاعة حاله، والجملتان الشرطيتان قيل: لا محل لهما من الإعراب؛ لأنهما تفصيل لما أجمل في المثال وتفسير لما أبهم فيه بيان وجه الشبه على منهاج قوله تعالى: خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون أثر قوله سبحانه وتعالى: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم وقيل: إنهما في محل النصب على الحالية من الكلب بناء على تحولهما إلى معنى التسوية كما تحول الاستفهام إلى ذلك في قوله تعالى: سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم كأنه قيل: لاهثا في الحالين، والجملة الشرطية كما قدمنا تقع حالا مطلقا، وقال صاحب الضوء: إنها لا تكاد تقع كذلك بتمامها، بل إذا أريد وقوعها حالا جعلت خبرا عن ذي الحال نحو: جاءني زيد؛ وهو إن تسأله يعطك، فتجعل جملة اسمية مع الواو لأن الشرط لصدارته لا يكاد يرتبط بما قبله إلا أن يكون هناك فضل قوة. نعم يجوز إذا أخرجتها عن حقيقتها سواء عطف عليها النقيض وحينئذ يجب ترك الواو كما فيما نحن فيه أو لم يعطف وحينئذ يجب الواو لئلا يحصل الالتباس بالشرط الحقيقي نحو: آتيك وإن لم تأتني، والتشبيه قيل من تشبيه المفرد بالمفرد، وقيل -وعليه كثير من المحققين-: إنه تشبيه للهيئة المنتزعة مما عراه بعد الانسلاخ من سوء الحال واضطرام القلب ودوام القلق والاضطراب وعدم الاستراحة بحال من الأحوال بالهيئة المنتزعة مما ذكر في حال الكلب، وجاء -وقد أشرنا إليه سابقا- أن بلعام لما دعا موسى عليه السلام خرج لسانه فتدلى على صدره وجعل يلهث كالكلب إلى أن هلك، فوجه الشبه إما عقلي أو حسي ذلك إشارة إلى وصف الكلب أو المنسلخ من الآيات وما فيه من الإيذان بالبعد لما مر غير مرة.
[ ص: 116 ] مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا يريد كما روي عن رضي الله تعالى عنهما أهل ابن عباس مكة؛ كانوا يتمنون هاديا يهديهم وداعيا يدعوهم إلى طاعة الله تعالى ثم لما جاءهم من لا يشكون في صدقه وأمانته كذبوه وأعرضوا عن الآيات ولم يؤمنوا بها أو اليهود كما قال غير واحد حيث قرؤوا نعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة، وذكر القرآن المعجز وما فيه فصدقوه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فانسلخوا من حكم التوراة، أو الأعم من هؤلاء وهؤلاء من كل من اتصف بهذا العنوان كما في الخازن وبه أقول، ويدخل اليهود في ذلك أوليا. فاقصص القصص القصص مصدر سمي به المفعول كالسلب، واللام فيه للعهد، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي: إذا تحقق أن المثل المذكور مثل هؤلاء المكذبين فاقصص ذلك عليهم لعلهم يتفكرون فينزجرون عما هم عليه من الكفر والضلال، والجملة في موضع الحال من ضمير المخاطب أو في موضع المفعول له، أي: فاقصص راجيا لتفكرهم أو رجاء لتفكرهم.