واتخذ قوم موسى من بعده أي: من بعد ذهابه إلى الجبل لمناجاة ربه سبحانه: من حليهم جمع حلي كثدي وثدي، وهو ما يتخذ للزينة ويتحلى به من الذهب والفضة، والجار والمجرور متعلق ب اتخذ كمن بعده، من قبله ولا ضير في ذلك لاختلاف معنى الجارين فإن الأول للابتداء والثاني للتبعيض، وقيل: للابتداء أيضا، وتعلقه بالفعل بعد تعلق الأول به واعتباره معه، وقيل: الجار الثاني متعلق بمحذوف وقع حالا مما بعده؛ إذ لو تأخر لكان صفة له، وإضافة الحلي إلى ضمير القوم لأدنى ملابسة؛ لأنها كانت للقبط فاستعاروها منهم قبيل الغرق فبقيت في أيديهم [ ص: 63 ] وقيل: إنها على ما يتبادر منها بناء على أن القوم ملكوها بعد أن ألقاها البحر على الساحل بعد غرق القبط أو بعد أن استعاروها منهم وهلكوا. قال الإمام: روي أنه تعالى لما أراد إغراق فرعون وقومه لعلمه أنه لا يؤمن أحد منهم أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط ليخرجوا خلفهم لأجل المال أو لتبقى أموالهم في أيديهم.
واستشكل ذلك بكونه أمرا بأخذ مال الغير بغير حق، وإنما يكون غنيمة بعد الهلاك مع أن الغنائم لم تكن حلالا لهم؛ لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: أحلت لي الغنائم» الحديث. «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي:
على أن ما نقل عن القوم في سورة طه من قولهم: حملنا أوزارا من زينة القوم يقتضي عدم الحل أيضا.
وأجيب بأن ذلك أن تقول: إنهم لما استعبدوهم بغير حق واستخدموهم وأخذوا أموالهم وقتلوا أولادهم ملكهم الله تعالى أرضهم وما فيها، فالأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده، وكان ذلك بوحي من الله تعالى لا على طريق الغنيمة، ويكون ذلك على خلاف القياس، وكم في الشرائع مثله، والقول المحكي سيأتي إن شاء الله تعالى ما فيه، وهذه الجملة كما قال الطيبي عطف على قوله سبحانه: وواعدنا موسى عطف قصة على قصة.
وقرأ حمزة (حليهم) بكسر الحاء إتباعا لكسر اللام كدلي، وبعض: (حليهم) على الإفراد. والكسائي:
وقوله سبحانه: عجلا مفعول اتخذ بمعنى صاغ وعمل، أخر عن المجرور لما مر آنفا، وقيل: إن اتخذ متعد إلى اثنين وهو بمعنى صير، والمفعول الثاني محذوف أي: إلها، والعجل ولد البقر خاصة، وهذا كما يقال لولد الناقة حوار ولولد الفرس مهر، ولولد الحمار جحش، ولولد الشاة حمل، ولولد العنز جدي، ولولد الأسد شبل، ولولد الفيل دغفل، ولولد الكلب جرو، ولولد الظبي خشف، ولولد الأروية غفر، ولولد الضبع فرغل، ولولد الدب ديسم، ولولد الخنزير خنوص، ولولد الحية حربش، ولولد النعام رأل، ولولد الدجاجة فروج، ولولد الفأر درص، ولولد الضب حسل، إلى غير ذلك، والمراد هنا ما هو على صورة العجل.
وقوله تعالى: جسدا بدل من عجلا، أو عطف بيان أو نعت له بتأويل متجسدا، وفسر ببدن ذي لحم ودم، قال الجسد كالجسم لكنه أخص منه، وقيل: إنه يقال لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه، ويقال أيضا لما له لون والجسم لما لا يبين له لون كالهواء، ومن هنا على ما قيل قيل للزعفران الجساد، ولما أشبع صبغه من الثياب مجسد، وجاء المجسد أيضا بمعنى الأحمر، وبعض فسر الجسد به هنا فقال: أي: أحمر من ذهب. الراغب: له خوار هو صوت البقر خاصة كالثغاء للغنم واليعار للمعز، والنبيب للتيس، والنباح للكلب، والزئير للأسد، والعواء والوعوعة للذئب، والضباح للثعلب، والقباع للخنزير والمواء للهرة، والنهيق والسحيل للحمار والصهيل والضبح والقنع والحمحمة للفرس والرغاء للناقة والصنى للفيل، والبتغم للظبي والضغيب للأرنب والعرار للظليم، والصرصرة للبازي والعقعقة للصقر والصفير للنسر والهدير للحمام والسجع للقمري والسقسقة للعصفور والنعيق والنعيب للغراب والصقاء والزقاء للديك والقوقاء والنقيقة للدجاجة والفحيح للحية والنقيق للضفدع والصئي للعقرب والفأرة والصرير للجراد إلى غير ذلك.
وعن أنه قرأ: (جؤار) بجيم مضمومة وهمزة، وهو الصوت الشديد، ومثله الصياح [ ص: 64 ] والصراخ. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما وخوار مبتدأ، والجملة في موضع النعت ل عجلا. علي كرم الله تعالى وجهه
روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام فصار حيا.
وذكر بعضهم في سر ذلك أن جبريل عليه السلام لكونه الروح الأعظم سرت قوة منه إلى ذلك التراب أثرت ذلك الأثر بإذن الله تعالى لأمر يريده عز وجل، ولا يلزم من ذلك أن يحيا ما يطؤه بنفسه عليه السلام؛ لأن الأمر مربوط بالإذن وهو إنما يكون بحسب الحكم التي لا يعلمها إلا الحكيم الخبير فتدبر. وإلى القول بالحياة ذهب كثير من المفسرين، وأيد بأن الخوار إنما يكون للبقر لا لصورته، وبأن ما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة طه كالصريح فيما دل عليه الخبر. وقال جمع من مفسري المعتزلة: إن العجل كان بلا روح، وكان السامري قد صاغه مجوفا ووضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهب الريح فكانت تدخل في تلك الأنابيب فيسمع لها صوت يشبه خوار العجل؛ ولذلك سمي خوارا. وما في طه سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه. واختلف في هذا الخوار فقيل: كان مرة واحدة، وقيل: كان مرات كثيرة، وكانوا كلما خار سجدوا له، وإذا سكت رفعوا رؤوسهم. وعن أنه كان يخور ويمشي. وعن السدي نفي الحركة، والآية ساكتة عن إثباتها، وليس في الأخبار ما يعول عليه فالتوقف عن إثبات المشي أولى، وليست هذه المسألة من المهمات، وإنما نسب الاتخاذ إلى قوم وهب موسى عليه السلام وهو فعل السامري لأنهم رضوا به وكثيرا ما ينسب الفعل إلى قوم مع وقوعه من واحد منهم فيقال: قتل بنو فلان قتيلا والقاتل واحد منهم، وقيل: لأن المراد اتخاذهم إياه إلها، فالمعنى صيروه إلها وعبدوه، وحينئذ لا تجوز في الكلام لأن العبادة له وقعت منهم جميعا.
قال كلهم عبدوا العجل إلا الحسن: هارون عليه السلام، واستثنى آخرون غيره معه، وعلى القول قيل: لا بد من تقدير فعبدوه ليكون ذلك مصب الإنكار؛ لأن حرمة التصوير حدثت في شرعنا على المشهور، ولأن المقصود إنكار عبادته. ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا تقريع لهم وتشنيع على فرط ضلالهم وإخلالهم بالنظر، أي: ألم يروا أنه لا يقدر على ما يقدر عليه آحاد البشر من الكلام وإرشاد السبيل بوجه من الوجوه فكيف عدلوه بخالق الأجسام والقوى والقدر، وجعله بعضهم تعريضا بالإله الحق وكلامه الذي لا ينفد وهدايته الواضحة التي لا تجحد، وقيل: إنه تعريض بالله تعالى وبكلامه مع موسى عليه السلام وهدايته لقومه، اتخذوه تكرار لجميع ما سلف من الاتخاذ على الوجه المخصوص المشتمل على الذم، وهو من باب الكناية على أسلوب: أن يرى مبصر ويسمع واع، أي: أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المنكر.
وكانوا ظالمين اعتراض تذييلي أي: إن دأبهم قبل ذلك الظلم ووضع الأشياء في غير موضعها فليس ببدع منهم هذا المنكر العظيم، وكرر الفعل ليبني عليه ذلك، وقيل: الجملة في موضع الحال؛ أي اتخذوه في هذه الحالة المستمرة لهم.