أفأمنوا مكر الله تكرير لمجموع الإنكارين السابقين جمعا بين التفريق قصدا إلى زيادة التحذير والإنذار، وذكر جمع من جلة المحققين أنه لو جعل تكريرا له ولما سلف من غرة أهل القرى السابقة أيضا على معنى أن الكل نتيجة الأمن من مكر الله تعالى لجاز، إلا أنه لما جعل تهديدا للموجودين كان الأنسب التخصيص، وفيه تأمل. والمكر في الأصل الخداع، ويطلق على الستر يقال: مكر الليل أي: ستر بظلمته ما هو فيه، وإذا نسب إليه سبحانه فالمراد به استدراجه العبد العاصي حتى يهلكه في غفلته تشبيها لذلك بالخداع، وتجوز هذه النسبة إليه سبحانه من غير مشاكلة خلافا لبعضهم، وهو هنا إتيان البأس في الوقتين والحالين المذكورين، وهل كان تبديل مكان السيئة الحسنة المذكور قبل مكرا واستدراجا أو ملاطفة ومراوحة؟ فيه خلاف، والكل محتمل، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ، أي: الذين خسروا أنفسهم فأضاعوا فطرة الله التي فطر الناس عليها والاستعداد القريب المستفاد من النظر في الآيات، والفاء هنا متعلق كما قال القطب الرازي وغيره بمقدر، كأنه قيل: فلما أمنوا خسروا؛ فلا يأمن. إلخ.
وقال إنها للتنبيه على تعقيب العذاب أمن مكر الله تعالى، وقد يقال: إنها لتعليل ما يفهمه الكلام من ذم الأمن [ ص: 13 ] واستقباحه، أو يقال: إنها فصيحة، ويقدر ما يستفاد من الكلام شرطا أي: إذا كان الأمن في غاية القبح فلا يرتكبه إلا من خسر نفسه، واستدلت الحنفية بالآية على أن الأمن من مكر الله تعالى وهو كما في جميع الجوامع الاسترسال في المعاصي اتكالا على عفو الله تعالى كفر، ومثله اليأس من رحمة الله تعالى؛ لقوله تعالى: أبو البقاء: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون وذهبت الشافعية إلى أنهما من الكبائر لتصريح رضي الله تعالى عنه بذلك، وروى ابن مسعود ابن أبي حاتم عن والبزار ابن عباس أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل: ما الكبائر؟ فقال: (الشرك بالله تعالى، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، وهذا أكبر الكبائر).
قالوا: وما ورد من أن ذلك كفر محمول على التغليظ، وآية: لا ييئس إلخ كقوله تعالى: والزانية لا ينكحها إلا زان و لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله في قول. وقال بعض المحققين: إن كان في الأمن اعتقاد أن الله تعالى لا يقدر على الانتقام منه، وكذا إذا كان في اليأس اعتقاد عدم القدرة على الرحمة والإحسان أو نحو ذلك، فذلك مما لا ريب في أنه كفر، وإن خلا عن نحو هذا الاعتقاد ولم يكن فيه تهاون وعدم مبالاة بالله تعالى فذلك كبيرة، وهو كالمحاكمة بين القولين،