وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا جملة مستأنفة ليست إثر بيان ما صدر عن أسلافهم لبيان ما صدر عنهم بالذات من الشنائع المؤيسة عن إيمانهم من نفاق بعض، وعتاب آخرين عليهم، ويحتمل أن تكون معطوفة على وقد كان فريق منهم إلخ، وقيل : معطوفة على (يسمعون) وقيل : على قوله تعالى : وإذ قتلتم نفسا عطف القصة على القصة، وضمير (لقوا) لليهود على طبق أن يؤمنوا لكم وضمير (قالوا) للاقين، لكن لا يتصدى الكل للقول حقيقة، بل بمباشرة منافقيهم، وسكوت الباقين، فهو من إسناد ما للبعض للكل، ومثله أكثر من أن يحصى، وهذا أدخل كما قال مولانا مفتي الديار الرومية في تقبيح حال الساكتين أولا العاتبين ثانيا، لما فيه من الدلالة على نفاقهم، واختلاف أحوالهم، وتناقض آرائهم من إسناد القول إلى المباشرين خاصة بتقدير المضاف، أي قال: منافقوهم كما فعله البعض، وقيل : الضمير الأول لمنافقي اليهود كالثاني، ليتحد فاعل الشرط والجزاء مراعاة لحق النظم، ويؤيده ما روي عن ، ابن عباس والحسن، في تفسير (وإذا لقوا) يعني منافقي اليهود المؤمنين الخلص قالوا، إلا أن السباق واللحاق كما رأيت، وسترى يبعدان ذلك، وقرأ وقتادة ابن السميقع (لاقوا).
وإذا خلا بعضهم إلى بعض أي إذا انفرد بعض المذكورين وهم الساكتون منهم بعد فراغهم عن الاشتغال بالمؤمنين متوجهين منضمين إلى بعض آخر منهم، وهم من نافق، وهذا كالنص على اشتراك الساكتين في لقاء المؤمنين، إذ الخلو إنما يكون بعد الاشتغال، ولأن عتابهم معلق بمحض الخلو، ولولا إنهم حاضرون عند المقاولة لوجب أن يجعل سماعهم من تمام الشرط، ولأن فيه زيادة تشنيع لهم على ما أوتوا من السكوت، ثم العتاب، قالوا أي أولئك البعض الخالي موبخين لمنافقيهم على ما صنعوا بحضرتهم.
أتحدثونهم بما فتح الله عليكم أي تخبرون المؤمنين بما بينه الله تعالى لكم خاصة من نعت نبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، أو من أخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه صلى الله تعالى عليه وسلم، ونصرته، والتعبير عنه بالفتح للإيذان بأنه سر مكتوم، وباب مغلق، وفي الآية إشارة إلى أنهم لم يكتفوا بقولهم : آمنا، بل عللوه بما ذكر، وإنما لم يصرح به تعويلا على شهادة التوبيخ، ومن الناس من جوز كون هذا التوبيخ من جهة المنافقين لأعقابهم وبقاياهم الذين لم ينافقوا، وحينئذ يكون البعض الذي هو فاعل (خلا) عبارة عن المنافقين، وفيه وضع المظهر موضع المضمر تكثيرا للمعنى، والاستفهام إنكار، ونهي عن التحديث في الزمان المستقبل، وليس بشيء، وإن جل قائله، اللهم إلا أن يكون فيه رواية صحيحة ودون ذلك خرط القتاد.
ليحاجوكم به متعلق بالتحديث دون الفتح، خلافا لمن تكلف له، والمراد تأكيد النكير، وتشديد التوبيخ، فإن التحديث، وإن كان منكرا في نفسه لكنه لهذا الغرض مما لا يكاد يصدر عن العاقل، والمفاعلة هنا غير مرادة، والمراد ليحتجوا به عليكم، إلا أنه إنما أتى بها للمبالغة، وذكر ابن تمجيد أنه لو ذهب أحد [ ص: 300 ] إلى المشاركة بين المحتج والمحتج عليه بأن يكون من جانب احتجاج، ومن جانب آخر سماع، لكان له وجه كما في بايعت زيدا، وقد تقدم ما ينفعك هنا، فتذكر، واللام هذه لام كي، والنصب بأن مضمرة بعدها، أو بها، وهي مفيدة للتعليل، ولعله هنا مجاز، لأن المحدثين لم يحوموا حول ذلك الغرض، لكن فعلهم ذلك لما كان مستتبعا له البتة جعلوا كأنهم فاعلون له إظهارا لكمال سخافة عقولهم، وركاكة أرائهم، وضمير (به) راجع إلى بما فتح الله على ما يقتضيه الظاهر، عند ربكم أي في كتابه وحكمه، وهو عند عصابة بدل من (به) ومعنى كونه بدلا منه أن عامله الذي هو نائب عنه بدل منه، إما بدل الكل، إن قدر صيغة اسم الفاعل، أو بدل اشتمال إن قدر مصدرا، وفائدته بيان جهة الاحتجاج بما فتح الله تعالى، فإن الاحتجاج به يتصور على وجوه شتى، كأنه قيل : ليحاجوكم به بكونه في كتابه، أي يقولوا : إنه مذكور في كتابه الذي آمنتم به، وبما ذكر يظهر وجه الجمع بين قوله تعالى : (به) أي بما فتح الله عليكم، وقوله تعالى : عند ربكم واندفع ما قيل، لا يصح جعله بدلا لوجوب اتحاد البدل والمبدل منه في الإعراب، وها هنا ليس كذلك لكون الثاني ظرفا، والأول مفعولا به بالواسطة، وقيل : المعنى: بما عند ربكم، فيكون الظرف حالا من ضمير (به)، وفائدته التصريح بكون الاحتجاج بأمر ثابت عنده تعالى، وإن كان مستفادا من كونه بما فتح الله تعالى، وقيل : عند ذكر ربكم، فالكلام على حذف مضاف، والمراد من الذكر الكتاب، وجعل المحاجة بما فتح الله تعالى باعتبار أنه في الكتاب محاجة عنده توسعا، وهذه الأقوال مبنية على أن المراد بالمحاجة في الدنيا، وهو ظاهر لأنها دار المحاجة، والتأويل في قوله تعالى : عند ربكم وقيل : عند ربكم على ظاهره، والمحاجة يوم القيامة، واعترض بأن الإخفاء لا يدفع هذه المحاجة لأنه إما لأجل أن لا يطلع المؤمنون على ما يحتجون به، وهو حاصل لهم بالوحي، أو ليكون للمحتج عليهم طريق إلى الإنكار، وإذا لا يمكن عنده تعالى يوم القيامة، ولا يظن بأهل الكتاب أنهم يعتقدون أن إخفاء ما في الكتاب في الدنيا يدفع المحاجة، بكونه فيه في العقبى، لأنه اعتقاد منهم بأنه تعالى لا يعلم ما أنزل في كتابه، وهم برآء منه، والقول بأن المراد ليحاجوكم يوم القيامة، وعند المسائل، فيكون زائدا في ظهور فضيحتكم، وتوبيخكم، على رؤوس الأشهاد في الموقف العظيم، فكان القوم يعتقدون أن ظهور ذلك في الدنيا يزيد ذلك في الآخرة، للفرق بين من اعترف، وكتم، وبين من ثبت على الإنكار، أو بأن المحاجة بأنكم بلغتم وخالفتم تندفع بالإخفاء، يرد عليه أن الإخفاء حينئذ إنما يدفع الاحتجاج بإقرارهم، لا بما فتح الله عليهم، على أن المدفوع في الوجه الأول زيادة التوبيخ والفضيحة، لا المحاجة، وقيل : (عند ربكم) بتقدير (من عند ربكم) وهو معمول لقوله تعالى : بما فتح الله عليكم وهو مما لا ينبغي أن يرتكب في فصيح الكلام، وجوز الدامغاني أن يكون عند للزلفى، أي ليحاجوكم به متقربين إلى الله تعالى، وهو بعيد أيضا، كقول بعض المتأخرين : إنه يمكن أن تجعل المحاجة به عند الرب عبارة عن المباهلة في تحقق ما يحدثونه، وعليه تكون المحاجة على مقتضى المفاعلة، وعندي أن رجوع ضمير (به) (لما فتح الله) من حيث إنه محدث به، وجعل القيد هو المقصود، أو للتحديث المفهوم من (أتحدثونهم)، وحمل عند ربكم على يوم القيامة، والتزام أن الإخفاء يدفع هذا الاحتجاج ليس بالبعيد، إلا أن أحدا لم يصرح به، ولعله أولى من بعض الوجوه، فتدبر، أفلا تعقلون عطف إما على أتحدثونهم والفاء لإفادة ترتب عدم عقلهم على تحديثهم، وإما على مقدر، أي ألا تتأملون فلا تعقلون، والجملة مؤكدة لإنكار التحديث، وهو من تمام [ ص: 301 ] كلام اللائمين، ومفعوله إما ما ذكر أولا، أو لا مفعول له، وهو أبلغ، وقيل : هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين متصل بقوله تعالى : أفتطمعون ، والمعنى: أفلا تعقلون حال هؤلاء اليهود، وأن لا مطمع في إيمانهم، وهم على هذه الصفات الذميمة، والأخلاق القبيحة، ويبعده قوله تعالى :