الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            فصل في تنفيذه جيش أسامة بن زيد

            الذين كانوا قد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسير إلى تخوم البلقاء من الشام ، حيث قتل زيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة فيغيروا على تلك الأراضي ، فخرجوا إلى الجرف فخيموا به ، وكان فيهم عمر بن الخطاب - ويقال وأبو بكر الصديق . فاستثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ; للصلاة - فلما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا هنالك ، فلما مات عظم الخطب واشتد الحال ونجم النفاق بالمدينة ، وارتد من ارتد من أحياء العرب حول المدينة ، وامتنع آخرون من أداء الزكاة إلى الصديق ، ولم تبق الجمعة تقام في بلد سوى مكة والمدينة ، وكانت جواثا من البحرين أول قرية أقامت الجمعة بعد رجوع الناس إلى الحق ، كما في " صحيح البخاري " عن ابن عباس ، وقد كانت ثقيف بالطائف ثبتوا على الإسلام ، لم يفروا ولا ارتدوا .

            والمقصود أنه لما وقعت هذه الأمور أشار كثير من الناس على الصديق أن لا ينفذ جيش أسامة لاحتياجه إليه فيما هو أهم الآن مما جهز بسببه في حال السلامة ، وكان من جملة من أشار بذلك عمر بن الخطاب ، فامتنع الصديق من ذلك ، وأبى أشد الإباء إلا أن ينفذ جيش أسامة ، وقال : والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو أن الطير تخطفنا ، والسباع من حول المدينة ، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين ، لأجهزن جيش أسامة . فجهزه وأمر الحرس يكونون حول المدينة ، فكان خروجه في ذلك الوقت من أكبر المصالح ، والحالة تلك ، فساروا لا يمرون بحي من أحياء العرب إلا أرعبوا منهم ، وقالوا : ما خرج هؤلاء من قوم إلا وبهم منعة شديدة . فغابوا أربعين يوما ، ويقال : سبعين يوما . ثم آبوا سالمين غانمين ، ثم رجعوا فجهزهم حينئذ مع الأحياء الذين أخرجهم لقتال المرتدة ، ومانعي الزكاة

            وعن الحسن البصري ، أن أبا بكر لما صمم على تجهيز جيش أسامة قال بعض الأنصار لعمر : قل له فليؤمر علينا غير أسامة . فذكر له عمر ذلك ، فيقال : إنه أخذ بلحيته وقال : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ، أأؤمر غير أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! ثم نهض بنفسه إلى الجرف فاستعرض جيش أسامة وأمرهم بالمسير ، وسار معهم ماشيا ، وأسامة راكبا ، وعبد الرحمن بن عوف يقود براحلة الصديق ، فقال أسامة يا خليفة رسول الله ، إما أن تركب وإما أن أنزل . فقال : والله لست بنازل ولست براكب . ثم استطلق الصديق من أسامة عمر بن الخطاب - وكان مكتتبا في جيشه - فأطلقه له ، فلهذا كان عمر لا يلقاه بعد ذلك إلا قال : السلام عليك أيها الأمير . وقال سيف بن عمر التميمي بسنده عن عاصم بن عدي قال : نادى منادي أبي بكر من الغد من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليتم بعث أسامة ، ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف . وقام أبو بكر في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أيها الناس ، إنما أنا مثلكم ، وإني لا أدري لعلكم ستكلفونني ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق ، إن الله اصطفى محمدا على العالمين ، وعصمه من الآفات ، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع ، فإن استقمت فتابعوني ، وإن زغت فقوموني ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ; ضربة سوط فما دونها ، وإن لي شيطانا يعتريني ، فإذا أتاني فاجتنبوني ، لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم ، وإنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه ، وإن استطعتم أن لا يمضي إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا ، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله ، وسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال ، فإن قوما نسوا آجالهم وجعلوا أعمالهم لغيرهم ، فإياكم أن تكونوا أمثالهم ، الجد الجد ، النجاء النجاء ، الوحا الوحا ، فإن وراءكم طالبا حثيثا ، وأجلا مره سريع ، احذروا الموت ، واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان ، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبطون به الأموات . قال : وقام أيضا فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله ، عز وجل ، لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه ، فأريدوا الله بأعمالكم ، فأيما أخلصتم لله من الأعمال ، فطاعة أتيتموها ، وحظا ظفرتم به ، وضرائب أديتموها ، وسلفا قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية لحين فقركم وحاجتكم ، اعتبروا عباد الله بمن مات منكم ، وتفكروا فيمن كان قبلكم ، أين كانوا أمس ؟ وأين هم اليوم ؟ أين الجبارون ؟ أين الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب ؟ ! قد تضعضع بهم الدهر ، وصاروا رميما ، قد تركت عليهم القالات ، الخبيثات للخبيثين ، والخبيثون للخبيثات ، وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها ؟ ! قد بعدوا ونسي ذكرهم ، وصاروا كلا شيء إلا أن الله ، عز وجل ، قد أبقى عليهم التبعات ، وقطع عنهم الشهوات ، ومضوا والأعمال أعمالهم ، والدنيا دنيا غيرهم ، وبقينا خلفا بعدهم ، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا ، وإن اغتررنا بهم كنا مثلهم ، أين الوضاء الحسنة وجوههم ، المعجبون بشبابهم ؟ ! صاروا ترابا ، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم ، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط ، وجعلوا فيها الأعاجيب ؟ ! قد تركوها لمن خلفهم ، فتلك مساكنهم خاوية ، وهم في ظلمات القبور ، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ؟ أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم ؟ ! قد انتهت بهم آجالهم ، فوردوا على ما قدموا فحلوا عليه ، وأقاموا للشقوة أو السعادة فيما بعد الموت ، ألا إن الله لا شريك له ، ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرا ، ولا يصرف به عنه سوءا ، إلا بطاعته واتباع أمره ، واعلموا أنكم عبيد مدينون ، وأن ما عنده لا يدرك إلا بطاعته ، أما إنه لا خير بخير بعده النار ، ولا شر بشر بعده الجنة .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية