ولو ، فإن كفر بالله تعالى ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، فهو في سعة ، ولا تبين امرأته منه لتحقق الضرورة في ذلك بسبب الإكراه ، فإنه لا يحل له قتل المسلم بحال ، فتتحقق الضرورة في إجراء كلمة الشرك كما لو أكره على ذلك بعينه ، والأصل فيه ما روي { قيل : له لنقتلنك ، أو لتكفرن بالله أو تقتل هذا المسلم عمدا مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما : أتشهد أن محمدا رسول الله ، فقال : نعم ، فقال أتشهد أني رسول الله ، فقال [ ص: 136 ] لا أدري ما تقول ، فقتله ، وقال للآخر : أتشهد أن محمدا رسول الله ، فقال : نعم ، فقال أتشهد أني رسول الله ، فقال نعم ، فخلى سبيله ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام أما الأول ، فقد آتاه الله تعالى أجره مرتين ، وأما الآخر ، فلا إثم عليه } ، ففي هذا دليل أنه يسعه ذلك عند الإكراه ، وأنه إن امتنع منه حتى قتل كان أعظم لأجره ; لأنه أظهر الصلابة في الدين ، ولأن إجراء كلمة الشرك جناية على الدين من حيث الصورة ، وإن لم تكن جناية معنى عند طمأنينة القلب بالإيمان ، والتحرز عن الجناية على الدين صورة ، ومعنى سبب لنيل الثواب ، ولا يحل له أن يقتل المسلم بحال ; لأنه لو أكره على ذلك بعينه لم يحل له أن يفعله ، فعند التردد بينه ، وبين غيره أولى ، فإن قتل الرجل المسلم . أن
ففي القياس عليه القود ; لأنه كان متمكنا من دفع البلاء عن نفسه بإجراء كلمة الشرك على اللسان ، فلا يأثم به ، ولا تبين منه امرأته ، فإذا ترك ذلك ، وأقدم على القتل كان بمنزلة الطائع في ذلك ، ولما لم يتحقق الإلجاء فيه ، فيصير حكم القتل عليه بمنزلة ما لو أكره عليه بالحبس ، فيلزمه القود ، ولكنه استحسن لإسقاط القود عنه إذ لم يكن عالما بأن الكفر يسعه في هذا الوجه ; لأن حرمة الشرك حرمة باتة مضمنة لا تنكشف بحال ، ولكن يرخص له مع طمأنينة القلب بالإيمان ، فهو يتحرز مما هو حرام ; لأن هذه الرخصة سببها خفي قد يخفى على كثير من الناس ، فيصير جهله بذلك شبهة في إسقاط القود عنه ، ولكن يجب عليه الدية في ماله في ثلاث سنين ; لأن الضرورة لم تتحقق له في الإقدام على القتل ، فيكون فعل القتل مقصورا عليه ، وإن أسقطنا عنه القود للشبهة ، والمال يثبت مع الشبهات ، فتجب الدية في ماله ، ولكن الدية بنفس القتل تجب مؤجلة ، ولم يذكر في الكتاب ما إذا كان عالما بأن الكفر يسعه ، وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أنه يلزمه القود ; لأنه لا يتقى له شبهة في الإقدام على القتل إذا كان عالما بأن الكفر يسعه ، فهو نظير المسلم إذا أكره على أكل الميتة ، ولحم الخنزير على ما بينه ، وهذه من جملة المسائل التي يضره العلم فيها ، ويخلص في جهله .
وفي هذا الكتاب من هذا الجنس خمس مسائل جمعناها في كتاب الوكالة ، ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول ، وإن كان يعلم ذلك لا يلزمه القود ; لأنه بما صنع قصد مغايظة المشركين ، وإظهار الصلابة في الدين ، ويباح للإنسان أن يبذل نفسه ، وماله لما يكون فيه كبت ، وغيظ للمشركين ، فيقاتلهم ، وإن كان يعلم أنهم يقتلونه ، فإذا كان يحل له في نفسه ، ففي نفس الغير أولى وإن كان لا يحل له ذلك ، فيصير شبهة في درء القود عنه ولو ، فينبغي له أن يأكل الميتة لما [ ص: 137 ] بينا أن حرمة الميتة تنكشف عند الضرورة ، وقد تحققت الضرورة هنا ، فالتحقت الميتة بالمباح من الطعام كما لو أكره عليه بعينه ، فإن لم يأكل الميتة وقتل المسلم ، فعليه القود ; لأنه طائع في الإقدام على القتل حين تمكن من دفع البلاء عن نفسه بتناول الميتة وذلك مباح له عند الضرورة ، وليس في التحرز عن المباح إظهار الصلابة في الدين ، فلهذا لزمه القود ، وأشار إلى الفرق بين هذا ، وبين ما تقدم ، فقال . قيل له : لنقتلنك ، أو لتأكلن هذه الميتة ، أو لتقتلن هذا المسلم عمدا
( ألا ترى ) أنه لو لم يكفر حتى قتل كان مأجورا ، ولو لم يأكل الميتة حتى قتل كان آثما إذا كان يعلم أنه يسعه ذلك .
وقد بينا في أول الكتاب قول رحمه الله في أنه لا يأثم إذا امتنع من التناول عند الضرورة ، وأن الأصح ما ذكره في الكتاب من انكشاف الحرمة ، ولو أكرهه في هذا بوعيد أو سجن ، أو قيد لم يسعه أن يكفر ، فإن ، فعل بانت منه امرأته ; لأن الضرورة لم تتحقق ، فإن أبي يوسف ، ففي القياس عليه الحد ; لأنه لا تأثير للإكراه بالحبس في الأفعال فوجوده كعدمه . شرب الخمر عند الإكراه بالحبس
( ألا ترى ) أن العطشان الذي لا يخاف على نفسه الهلاك إذا شرب الخمر يلزمه الحد ، فالمكره بالحبس قياسه ، وفي الاستحسان لا حد عليه ; لأن الإكراه لو تحقق به الإلجاء صار شرب الخمر مباحا له ، فإذا وجد جزء منه يصير شبهة كالملك في الحر ، وفي الجارية المشتركة يصير شبهة في إسقاط الحد عنه بوطئها ; ولأن الإكراه بالحبس معتبر في بعض الأحكام غير معتبر في البعض ، وحد الخمر ضعيف ثبت باتفاق الصحابة رضي الله عنهم على ما قال رضي الله عنه : ما من أحد أقيم عليه حد فيموت ، فأجد في نفسي من ذلك شيئا إلا حد الخمر ، فإنه ثبت بآرائنا ، فلهذا صار هذا القدر من الإكراه شبهة في إسقاط هذا الحد خاصة وإن قتل المسلم قتل به في الوجوه كلها ; لأن الإكراه بالحبس لا أثر له في نسبة الفعل إلى المكره ولا في إباحة القتل ، فلا يصير الإكراه بالحبس شبهة في إسقاط القود عن القاتل . علي