3-6 أغراض القصة في القرآن الكريم:
اهتم الباحثون والمفسـرون والفقهاء وغيرهم بالقصـص القرآني، لما فيه من صور معرفية مختلفة، وقد تنوعت الكتابات في هذا الباب، مما أشرنا إليه، وقد فصل بعضهم أن القصص القرآني لها أهداف وأغراض محددة، وقد استقرأ هذه الغايات من القرآن الكريم ذاته، لذلك يظن أحد الباحثين أن أبرز أغراض القصة القرآنية ما يلي:
1- الدعوة إلى التوحيد، فلم يرسل الله رسولا قط إلا بدعوة قومه إلى توحيد الله عز وجل، ونبذ عبادة ما سواه، قال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (الأنبياء:25).
[ ص: 132 ] وكذلك الدعوة إلى أصول الديانات، من البعث والإيمان بالكتب والرسل والأخلاق العامة التي لا تصلح المجتمعات بدونها.
2- بيان أن دعوة الرسل جميعا واحدة، وأن الدين الذي جاء به الجميع واحد، من عهد نوح إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم، وأن المؤمنين كلهم أمة واحدة، والله الواحد رب الجميع، فلا عذر لمن يتخلف عن الإجابة ويتبع هواه، وفي ذلك يقول الله تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب (الشورى:13).
ويقول تعالى في قصة نوح: لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره (الأعراف:59).
وفي شأن صالح، عليه السلام، يقول تعالى: وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب (هود:61).
وهود، عليه السلام، يقول الله عنه: وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره (هود:50).
[ ص: 133 ] وقال تعالى في شأن شعيب، عليه السلام: وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره (الأعراف:85).
3- إثبات الوحي والدلالة على صحة رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذا القصص إخبار بالغيب بالنسبة له صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أمي لم يقرأ هذا القصص من كتب السابقين، ولم يثبت أنه تعلم أو تلقى شيئا من ذلك من أحبار اليهود والنصارى، فورود القصص في القرآن الكريم بهذه الدقة والإحكام وبلوغ الغاية في الفصاحة والبيان دليل على أنه وحي يوحى، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت به من تلقاء نفسه.
وقد نص القرآن الكريم على هذا في مقدمات بعض القصص أو في التعقيب عليها في نهايتها. قال تعالى: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (يوسف:3) ، وقال تعالى في قصة مريم: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون (آل عمران:44).
واقرأ في هذا ما جاء تعقيبا على قصة موسى، عليه السلام، في سورة القصص، يقول الله تعالى: وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين (القصص:44) ، ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون (القصص:45-46).
[ ص: 134 ] إن في أخبار الرسـول صلى الله عليه وسلم بهذه الغيـوب الماضـية وهو لم يكن حاضرا ولا مشاهدا ولا مقيما بينهم، مع انتفاء تعلمه ذلك من بشر، دليل على نبوته وإثبات لرسالته صلى الله عليه وسلم.
4- التأسي بأولي العزم من الرسل فيما لاقوه في سبيل الله والدعوة إليه من الأذى والاضطهاد، وهم مع ذلك ثابتون على مبدئهم القيم ودينهم الحق، لم يعترهم وهن ولا ضعف ولم تفتر لهم همة، ولم يخالجهم شك إلى أن قضى الله أمره وأنجز لهم وعده، فنوح، عليه السلام، سخروا منه، وقالوا له: قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين (الأعـراف:60) ؛ وهود، عليه السلام، قالوا له: قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين (الأعراف:66) ؛ واستهزأوا بشعيب، عليه السلام، وقالوا له: قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز (هود:91) ؛ وعيسى، عليه السلام، أرادوا أن يقتلوه، قال تعالى: وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم (النساء:157).
[ ص: 135 ] 5- تسـلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت فـؤاده وتقوية عزيمتـه، رغم ما يلاقي من أذى واضطهاد، فما يقال له إلا ما قد قيل للرسل من قبله، وإن يكذبوه فقد كذبت رسـل من قبله فصـبروا على ما كذبـوا، قال تعالى: وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك (هود:120) ، وقال تـعـالى: ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين (الأنعام:34).
وفي هذا أيضا تثبيت للمؤمنين، وغرس الثقة في نفوسـهم، وتسـليتهم عما أصابهم، بما آلت إليه حال المؤمنين السابقين وحال الكافرين.
6- إعلام النبي صلى الله عليه وسلم وإعلام المسلمين بأحوال الأنبياء والأمم السابقين؛ لتكون لديهم الحجة لمعارضة أهل الكتاب في تحديهم وتعنتهم، كما قال تعالى: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين (آل عمران:93). وقد تؤدي هذه المحاجة إلى إيمان بعض الناس، وكذلك دفع تعنتهم في أسئلتهم، التي كانوا يريدون بها تعجيز النبي صلى الله عليه وسلم.
7- في القصة القرآنية دلالة على قدرة الخالق، من حيث الإعطاء والمنع والإنجاء والإهلاك وخلق خوارق العادات، كخلق آدم وقصة مولد عيسى، عليهما السـلام، وقصـة إبراهيم والطير، وعصـا موسـى ويده، التي يدخلها في جيبه ثم يخرجها فإذا هي بيضاء للناظرين من غير مرض، وإبراء عيسى [ ص: 136 ] للأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، بإذن الله، وإخراجه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وكذلك ناقة صالح، التي جعلها الله له آية، وإماتة الله رجلا مائة عام ثم بعثه... إلى غير ذلك من الخوارق، التي تدل على قدرة قادرة، وتدبير إلهي حكيم.
8- العظة والعبرة لكل من الفريقين - المؤمنين والكافرين- فقد اشتملت القصة القرآنية على كثير من العظات والعبر، التي تؤثر في النفوس وتدفع الكافرين إلى الإيمان لئلا يصيبهم ما أصـاب الأمم من قبلهم أو يحل بهم من العذاب العاجـل مثل ما حل بقوم هود أو قوم صـالح أو قوم لوط، وتـدفع المؤمنين لزيادة التمسك بدينهم؛ والتفاني في نشر تعاليمه، وتحمل الأذى في سبيله، لينالوا من النعيم ما أعد لهم ولأمثالهم السابقين، قال تعالى: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب (يوسف:111).
9- بيان عاقبة التقوى والصلاح، وعاقبة الشر والفساد كقصة ابني آدم، وقصة صاحب الجنتين، وقصص بني إسرائيل بعد عصيانهم، وقصة سد مأرب، وقصة أصحاب الأخدود... إلى غير ذلك من القصص.
10- بيان نعمة الله على أنبيائه وأصفيائه، كقصص سليمان وداود وأيوب وإبراهيم ومريم وعيسى وزكريا ويونس وموسى، عليهم السلام.
11- إثبات عقيدة البعث والجزاء، ورفع الشك عنها، ويبدو ذلك واضحا جليا في قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها: [ ص: 137 ] أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير (البقرة:259) ، وقصـة بـقرة بني إسرائيل: فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون (البقرة: 73) ، وقصة أصحاب الكهف: وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها (الكهف:21) ، وقصة الألوف من بني إسرائيل الذين خرجوا حذر الموت، قال تعالى: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (البقرة:243) [1] .
هذا، وقد جاء القرآن الكريم بلسان عربي مبين، والشخصيات التي وردت في قصصه لم يكن لسانها عربيا كنوح وإبراهيم وفرعون، وأصحاب الكهف، ويوسف وإخوته، وامرأة العزيز، وكل الأنبياء وأقوامهم.... إلى غير ذلك من الشخصيات، التي نطق عنها القرآن الكريم بلسان عربي مبين، ففرعون مثلا نطق عنه القرآن الكريم بمقولات كثيرة كقوله: [ ص: 138 ] ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين (الزخرف:51-52) ، وقوله: وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى (غافر:36-37) ، وقوله لموسى، عليه السلام، ممتنا عليه: قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين (الشعراء:18-19) ، فإنه مما لا شك فيه أن فرعون لم ينطق بهذه الكلمات العربية وإنما الذي نطق به هو ما تحمله هذه الكلمات من معنى، وكذلك كل ما نطق به الأنبياء وأقوامهم..
وأكثر من هذا، الجماد والحشرات والطير ينطقها القرآن الكريم بهذا اللسان العربي المبين، قال تعالى: ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (فصلت:11) ، وقال تعالى: حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون (النمل: 18).
والهدهد يقول لسيدنا سليمان: أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون (النمل:22-24).
[ ص: 139 ] والقرآن الكريم في قصـصه يحكي مقولات المتحـاورين والمجادلين والناطقين في الحدث الذي يقصـه – يحكيها – كما هي في مضـمونها ومفهومها، وإن جاءت بلسان غير لسانهم وبلغة غير لغتهم، فالقرآن إذ يحكي عن قوم كانوا يتكلمون بالسـريانية – مثـلا – وينقل أقـوالهم ومجـادلاتهم فإنه يعرب عن معاني ألفاظهم ومضامين كلامهم باللغة العربية في ترجمة أمينة صادقة، كاملة لا نقص فيها ولا زيادة.