الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      بين التربية والقانون

      الدكتور / علي القريشي

      2- التدرج في تطبيق القاعدة القانونية:

      المبدأ الإسـلامي العام في ظل المرحلة الانتقالية هو أن تـطـرح التـربـيـة أولا ثم القانون، كما يكون الإعلام المسبق بالأحكام شرطا لسريانها.

      ومن خصائص المنهجية الإسـلامية في بناء العلاقة بين التربية والقانون في ظل المرحلة الانتقالية التدرج في تنزيل الأحكام في الموضوع الواحد.

      - النسخ القرآني والتدرج في الأحكام:

      النسخ القرآني يعني رفع حكم شرعي تدل عليه آية من الآيات بدليل آية أخرى لاحقة. وهذا النسخ يعبر عن منهجية التدرج في معالجة بعض العادات والسلوكيات المطلوب محوها واتباع صيغ أو مواقف أخرى جديدة. وهو يمثل آلية تشريعية ذات مغزى تربوي تعتمد التكييف التدريجي من أجل الانصراف عن العادات أو السلوكيات السابقة من دون مفاجئة منفرة أو إلزام يشق به على الناس حتى يتم التسكين عند مقتضى الحكم في صورته النهائية.

      والنسـخ القـرآني كآلية في منهجـيـة التـدرج في الأحـكام يمكن تلمسـها في مسائل عدة من أبرزها: [ ص: 74 ]

      - مسألة تحريم الخمر:

      حين ظهر الإسلام لم يحرم الخمر أول مرة، نظرا لأن الخمر في المجتمع العربي كان أمرا متحكما وشائعا، لذا بدأ القرآن بوصف السكر بقوله تعالى: ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ) (النحل:67)، فنعت الرزق هنا بالحسن وتجريد السكر من أي وصف، فيه تلميح إلى أن الرزق الحسن غير الخمر، وأن الخمر ليس رزقا حسنا. وهذه توطئة أولية لما سيصدر من حكم في هذا الشأن [1] .

      ثم أخذ ينبه الضمير الديني إلى أن في الخمر إثم وإن كانت فيه منافع للناس: ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) (البقرة:219). وهذه خطوة أخرى باتجاه التحريم.

      ثم ما لبث بعد مدة أن تطور الموقف إلى آخر يقضي بتحريم السكر في حالة معينة وهي أداء الصلاة، قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) (النساء:43).

      وأخيرا جاء التحريم الكلي القاطع في قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) (المائدة:92-93). [ ص: 75 ]

      وهكذا كانت عملية التدرج عبر هذا النسخ تمثل تدريبات نفسية وتربوية ممهدة لحكم التحريم النهائي.

      - في مسألة تحريم الربا:

      أشار القرآن الكريم في البداية إلى الربا إشارة سلبية من دون تحريمه، وذلك في قوله تعالى: ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ) (الروم:39).

      فالزكاة هنا أرفع قيمة من الربا، حيث معها يأتي النماء ويضاعف الله لدافعها الثواب، وفي هذا توجيه ينبه الناس للانصراف عن السلوك الربوي.

      ثم جاء التحريم ولكن على نحو ضمني وعلى هيئة درس وعبرة ساقهما القرآن حكاية عن بني إسرائيل، الذين حرم الله عليهم الربا فأكلوه [2] وذلك في قوله تعالى: ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ) (النساء:160-161).

      وفي مرحلة ثالثـة جاء النص ليحرم الربا صراحـة حينما يكون فاحشـا وذلك في قولـه تـعالـى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ) (آل عمران :130). [ ص: 76 ]

      وفي مرحلة أخيرة جاء التحريم: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ) (البقرة:278). ثم جاء التحريم القاطع المحكم بقوله تعالى: ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) (البقرة:275).

      فكان كل هذا التدرج تدريبا تربويا سبق الحكم النهائي.

      - في مسألة الرق:

      إذا كان الإسلام قد أقر الرق في البداية بوصفه نظاما اقتصاديا واجتماعيا سائدا في جزيرة العرب، وفي الكثير من أجزاء العالم آنذاك، فهو في الوقت نفسه كان يضمر التخلص منه كظاهرة اجتماعية اعتمادا على مبدأ التدرج والمقصد الضمني. وهذا ما يفهم من جعل منح الحرية للعبيد كفارة عند ارتكاب القتل خطأ أو الإفطار عمدا في رمضان أو الحنث في اليمين أو عند إعلان "الظهار" أو غيرها من الأخطاء والآثام، بل عظم الله تعالى قيمة فك الرقبة بقوله: ( وما أدراك ما العقبة * فك رقبة ) (البلد:12-13).

      وإذا كان الإسلام قد جوز الاسترقاق وحصره في حالة "أسرى الحرب" حين تكون الحرب دفاعية، فإنه حرمه في حالات الإغارة أو الخطف أو لوفاء الدين أو غيرها من الدوافع والأسباب.

      وقد أظهر الإسلام كراهيته لهذه الظاهرة بدليل أنك لا تجد نصا في القرآن أو في السنة يأمر بالرق أو يستحسنه، بل أن الآية، التي تعرضت إلى كيفية التصرف بأسرى الحرب قد وضعت خيارين: المن أو الفداء ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى [ ص: 77 ] تضع الحرب أوزارها ) (محمد:4)، علما أن الرق في تلك المرحلة كان مسلك الخصوم، ويمكن تبريره وفقا لمنطق المعاملة بالمثل.

      ولا ننسى الإشارة إلى أن أحد مصارف الزكاة عتق الرقاب، وفي ذلك دعوة مفتوحة للعتق حتى القضاء النهائي على الظاهرة أو النظام المذكور [3] .

      ونضيف: أنه بموجب نظرية المقاصد الشرعية يمكن إدراك أن مسار التعامل الإسلامي مع نظام الرق هو استهداف لإنهائه تدريجيا، لذلك ليس من المعقول والمقبول وفقا لمنطق الشرع نفسه أن يتم تناول موضوع الرق بوصفه حكما ثابتا.

      - في مسألة الميراث:

      أبقى الإسـلام في المرحـلة الأولى نظام التوارث السائد عند العرب لكي لا يثقل عليهم بالتغيير الفوري ونقلهم من نظام ألفوه إلى آخر لم يألفوه، لذلك أبقاه في أسبابه الثلاثة المتمثلة في: النسب، والتبني، والحلف، ولم يغير من ذلك إلا بعد مرور بعض الوقت، وتحديدا بعد الهجرة إلى المدينة حين جعل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار سببا للتوارث، كما في قوله تعالى: ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض ) (الأنفال:72). فالمراد بالولاية هنا الوراثة، وبذلك أضيف سببا رابعا للميراث.

      وحينما تمكنت العقيدة في نفوس المؤمنين، وتوطدت أركانها في قلوبهم وأصبحوا يملكون الاستجابة لله ورسوله عن طواعية واختيار، بدأ القرآن الكريم [ ص: 78 ] في وضع الأسس والأسباب، التي ينبغي أن يبنى عليها نظام التوريث، وإلغاء الأسباب السابقة، فأبطل النظام الذي كان سائدا في الجاهلية وصدر الإسلام، ثم أبطل التوريث عن طريق المؤاخاة والحلف، كما ألغى قصره على الرجال وصار يشمل النساء والصغار كما في قوله تعالى: ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ) (النساء:7)، وحين نزل قوله تعالى: ( ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ) (النساء:33)، فموجب هذا الحكم أضحت أسبابه ثلاثة هي: النسب، والنكاح، والولاء [4] .

      نستخلص مما تقدم أن الإسلام قد اتبع التربية المتدرجة عبر آلية النسخ في الأحكام بغية تهيئة الأفراد وتدريبهم على تقبل الأحكام الجديدة بديلا للأحكام السابقة، التي ألفوها أو اقتضتها ظروفهم السابقة. ومن هنا يظهر لنا أن نسخ الأحكام على هذا النحو ينطوي على تربية وتدريب من شأنهما المساعدة على قبول ما سيعتمده النظام الإسلامي من قوانين وأحكام جديدة دونما معاناة أو معارضة، وفي هذا تتجلى العلاقة بين التربية والقانون.

      والحقيقة، أن خاصية التدرج في التشريع والتطبيق وهي تنطوي على مراعاة الظروف والمتغيرات تمثل جزءا من منهجية التغيير النفسي والتربوي في الإسلام. [ ص: 79 ]

      ومن هنا يمكن التوسع بالأخذ بحكم الضرورات والاعتماد على مبدأ التدرج في تبني الشريعة في عصرنا الحالي، سواء على صعيد التشريع أو التطبيق. وذلك تماشيا مع عملية إعادة التطبيع السلوكي والتكييف التربوي، خضوعا لمقتضيات الظروف المحيطة، وسعيا لتوفير الأرضية المناسبة للالتزام بالقاعدة القانونية الجديدة، والتوافق مع ما يترتب عليها من أوامر أو نواه من غير عسر أو حرج أو معاناة





      [5] . [ ص: 80 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية