ثانيا: التوازن بين عوامل (الغيب) وعوامل (الشهادة):
الحضارة الكاملة تقوم على أساس التزاوج المتوازن بين العوامل الغيبية والعوامل المادية، بين هداية السماء وطاقات الأرض، بين الوحي الرباني (النقل) والفكر البشري (العقل)، بين الإيمان والعمل، أو بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب والسنن، مثل النموذج الذي أورده القرآن في سورة (الكهف) وهو الملك الصالح ذو القرنين.
هـذه الرؤية هي قاسـم مشترك بين الرجـلين، حيث اتفقا على أهمية الإيمـان والعمل في الإقـلاع الحضـاري. ويطلق مالك على الإيمان ما يسميه بـ (التوتر الداخلي)، بينما يطلق عليه جولن (الإيمان)، وأحيانا (الطاقة الروحية).
أما بالنسبة للنقـل والعقل فيطلق عليها مالك الأفكار المطبوعة والأفكار الموضوعة.
ولابد عند بن نبي لهذا التوتر الداخلي الدافع لبناء الحضارة من مسوغات، حيث اضمحلت المسوغات عند المسلمين في العصر الحديث، ولذلك دعا للبحث عن هذه المسوغات [1] .
وأسمى المسوغات هي ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56)، "شريطة أن نفهم هذا [ ص: 200 ] المسوغ السامي السماوي بمعناه التاريخي الذي أنار آفاق الإنسانية بنور الحضارة الإسلامية.." [2] .
وإذن، فإن أكبر وأقوى مسوغ لهذا التوتر الداخلي هو القرآن الكريم عند مالك بن نبي وكذا عند جولن، وقد استثمره الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل استثمار، حيث قال جولن: "كان القرآن بالنسبة إليه - أي الرسول صلى الله عليه وسلم - كل شيء.. كالهواء والماء، سلاحا ودرعا.. حصنا وقلعة، وراية ترفرف فوق هذه القلعة.. كان يتنفس بالقرآن، ويعلو به كالسحاب إلى الأعالي.. يسرع به لنجدة الملهوف المحتاج مثلما تسارع قطرات الرحمة لري عطش المخلوقات وظمئها.. ينافح به الظلام ويلوذ به من شرور الأشرار.. يصول به ويجول، ويكون نورا ينتشر في الآفاق" [3] .
ولهذا اهتما بتدبر القرآن، لأنه البراق الرابط بين السماء والأرض، والجسر الرابط بين النقل الرباني والعقل الإنساني، بين كمال الوحي المطلق وعجز الفكر البشري النسبي.