الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        قراءة في فكر مالك بن نبي

        الأستاذ / عبد الوهاب بوخلخال

        - فما الحل الذي يضعه بن نبي بين أيدينا؟

        يلخص لنا الأستاذ الحل من خلال سؤال وجوابه... أما السؤال فهو: (ما هي رسـالة المسـلم؟) وأما الجـواب فهو، إجمالا: (إنقاذ نفسه وإنقاذ الآخرين). [1]

        وهي الرسـالة التي تجسـد مفهوم (الشهادة على الناس)، والتي تنتهي بالعودة ثانية إلى التاريخ كفاعلين، يتحقق من خلالنا قول الله تعالى: ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ) (الصف:9).

        وهل هي مهمة (مستحيلة) - كما يرى العديد من المسلمين - بالنظر إلى واقعنا الحضاري المتأزم؟

        قطعا: لا... ولكنها في الوقت ذاته ليست مهمة سهلة، وإنما تتطلب جملة من الشروط الذاتية والموضوعية.

        ذلك أننا - حقا- في أزمة، والغرب أيضا في أزمة، ولكن الفرق بين الأزمتين، أن أزمتنا لم تمس جوهرنا كحضـارة، لها منظومة قيمية بإمكانها - إن فعلت - أن تقدم للإنسانية التائهة المخرج الآمن من أزمتها.

        يقول بن نبي : "كيف نتصور إذا دور المسلم؟" [ ص: 172 ]

        نتصوره طبقا لضرورات داخلية وضرورات خارجية، ضرورات إنشاء وتشييد في الداخل وضرورات اتصال وإشعاع في الخارج، ولو ألقينا سؤالا الآن، فلا شك أننا سنتفق على الجواب، فعندما نتساءل: كيف يقوم المسلم بدوره في اتجاه تحقيق معنى الآية الكريمة ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ) ، نجيب آليا: إن على المسلم أن يبلغ الإسلام، دون تحديد في إجابتنا، شروط التبليغ، وهذا هو المنطق السهل الذي يغرر بنا.

        إن الجـواب صحيح شـكليا، ولكننا بكل أسف نقف عند الجواب ولا نرى مقتضياته الواقعية.

        سأعطيكم صورة رمزية نطبقها بعد ذلك، هل ترون إلى الأرض عطشى تنتـظر الري من الماء؟ هل نستطيع ريها بماء يجري تحت مستواها؟ إن الإجـابة ستـكون بالطبع : لا - باستثناء المجنون أو صاحب الشطحات الصوفية إذ يعتقد أن الماء سوف يطلع إليها فيسقيها- لا لن يسقي الماء الأرض بالصعود إليها وإنما بالانحدار، وذلك بحكم السنن الإلهية عن طريق الجاذبية، سنة الله تقضي أن ينحدر إلى هذه الأرض إذا كان مستواه يخوله ذلك.

        إذا، إذا أراد المسلم أن يقوم بدور الري بالنسبة للشعوب المتحضرة، والمجتمع المتحضر، وأراد - بعبارة أوضح - أن يقدم المبررات الجديدة التي تنتظرها تلك الأرواح التي تتألم لفراغها وحيرتها وتيهها، إذا أراد [ ص: 173 ] المسـلم ذلك، فليرفع مستـواه بحيث يستطيع فعلا، القيام بهذا الدور، إذ بمقدار ما يرتفع إلى مستوى الحضارة بمقدار ما يصبح قادرا على تعميم ذلك الفضل الذي أعطاه الله له (أعني دينه)، إذ عندها فقط يصبح قادرا أيضا على بلوغ قمم الحقيقة الإسلامية، واكتشاف قيم الفضيلة الإسلامية، ومن ثم ينزل إلى هضاب الحضارة المتعطشة فيرويها بالحقيقة الإسلامية وبالهدى" [2] .

        ويرى من جـانب آخر، أن اضطلاع المسلم برسالته هو في جوهره عمـل (معجـز)، يشبـه ما قام به الأنبياء، وهو يحتاج إلى "أمرين: الاقتناع والإقناع.

        الاقتناع أولا لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فلا يمكن للمسلم إن لم يقتنع بأن له رسـالة، أن يبلـغ الآخرين هذه الرسـالة أو فحوى هذه الرسالة أو مفعول هذه الرسالة، إذا يجب أن يقتنع بها أولا، وأنا أعني قناعته برسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين، ولا أتكلم عن اقتناعه بدينه، فكل مسلم مقتنع بدينه من يوم أن نزلت الآية الأولى في غار حراء" [3] .

        ويرسم طريق القيام بهذا الدور الرسالي من خلال خطوات ثلاث، على المسلم أن يبادر إلى التحقق بها، كشروط موضوعية لعملية إنقاذ (الذات) وإنقاذ الآخرين، وهذه الخطوات هي: [ ص: 174 ]

        1- أن يعرف نفسه.

        2- أن يعرف الآخرين وأن لا يتعالى عليهم.

        3- أن يعرف الآخرين بنفسه، ولكن بالصورة المحببة، بالصورة التي أجريت عليها كل عمليات التغيير، بعد التنقية والتصفية من كل رواسب القابلية للاستعمار والتخلف وأصناف التأخر . [4]

        ولقد آثرنا نقل هذه الفقرات بطولها، لأنها تعرض تصور الأستاذ لمخرجنا من هذه الأزمة المزدوجة، وهو تصـور يعرض هنا بطريقة مركزة، لا يخفى على كل عاقل أن الحل المقترح يحتاج إلى تحليل وتعميق، لبيان تلك الشروط الموضـوعية والذاتية التي ألمح إليها الأستـاذ في ثنايا حديثه، وهو ما يتطلب دراسة أوسع وأوفى.

        فالعولمة بمنطق الفوضى تضع أمام المسلم عالم الغرب المتأزم، وعالمه الذاتي المتأزم أيضا، ولا مخرج من هذه الأزمة المزدوجة، إلا بإدراك المسلم للدور المزدوج نحو (الذات) بالبناء والتخلص من عوامل التخلف، ونحو (الآخر) بالإشعاع والدعوة، وهو مخرج يضعنا بمـأمن من مآلات الحلول التي يقترحها علينا أصحـاب الرفض المطلق للعولمة، فهم بذلك يديمون غيابنا عن التـاريخ، وإبعـادنا عن أداء واجـب الشهادة على النـاس [ ص: 175 ] كما كلـفنا الله تعالى... كما يبعدنا عن الحلول التي يقترحها علينا دعاة القبول المطلق للعولمة، والتماهي مع الغرب، فهم بذلك يدفعون بنا نحو التماهي مع الأزمة بدل الوصول إلى الحل، سيضيفون أزمات الغرب إلى أزمتنا الذاتية .

        لا مخرج إذا، إلا بالتخلص من إنسان ما بعد الموحدين من جهة، والوعي برسالتنا نحو إنقاذ الإنسانية من جهة ثانية.

        ولنختـم رحـلتنا بما ختـم به الأستاذ مالك بن نبي، رحمه الله، كتابه (وجهة العالم الإسلامي):

        "هكذا تتضح معالم الطريق الجديد الذي ينفتح أمام الإسلام" (ص186). [ ص: 176 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية