سابعا: حلم عمر رضي الله عنه ورحمته بين الناس:
إن للسلطة إغراء وإغواء قل من صمد إزاءهما، فإذا بالحاكم يرى في نفسه أنه المحيي المميت، المالك لرقاب الناس، وذلك ما صوره المشهد القرآني في قول الله تعالى: ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت ) (البقرة:258)، ولم يكن هذا الملك سوى واحدا من عشرات أو ربما المئات من الحكام المتسلطين، الذين استهوتهم هذه الصورة المتخيلة فمارسوها في الواقع، فقتلوا من شاءوا، وأحيوا من شاءوا بقرارات استبدادهم وطغيانهم، متلذذين بهذه اللعبة التي خلت فيها قلوب الحكام من معاني الشفقة والرحمة على رعيتهم، معتقدين أنهم قد استعبدوا هذه الرعية وملكوا رقابها.
لقد كان الحلم سجية ميزت عمر رضي الله عنه ، على ما فيه من مهابة وشدة بأس، وربما برزت هذه السجية بعد توليه الخلافة أكثر من قبل. فجرى حوار احتدم بين عمر رضي الله عنه - وهو الخليفة - ورجل من عامة المسلمين، فقال الرجـل: "اتق الله يا أمير المؤمنين"، فأثار ذلك حفيظة أحدهم ووجد في هذا القول استفزازا لعمر، فأراد زجـر الرجـل، إلا أن عمر رضي الله عنه قال له: "دعه فليقلها لي، نعم ما قال"، ثم قال: "لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم" [1] . [ ص: 56 ]
وقفت له امرأة على قارعـة الطريق، فنادته: "يا عمر!" بالبساطة والعفوية المعهودة في بسطاء الناس، فوقف لها عمر رضي الله عنه يسمع منها، فقالت: "كنا نعرفك مدة عميرا، ثم صرت من بعد عمير عمر، ثم صرت من بعد عمر أمير المؤمنين، فاتق الله يا ابن الخطاب، وانظر في أمور الناس، فإنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت" فبكى عمر رضي الله عنه من قولها، فالمرأة مزجت التذكير بالنقد، فبكى خوفا من تقصيره في أمانته [2] .
إن الأهمية الكبيرة للحلم، وقد أبداه عمر رضي الله عنه بنطاق واسع، تتجسد في الدلالات التي يعكسها في سلوك صاحبه، فالحلم يعكس أولا رجاحة عقل الحليم، وإنه قادر على تفهم الأمر الذي حلم عليه، وإنه استوعبه وتفاعل معه إيجابيا وبذهن منفتح، ومثل هذا المنهج يرسخ الثقة بين الأمة وولي أمرها، وهذه الثقة أساس ناجح لعلاقة إيجابية بين الطرفين، فإن كان الأمر خلاف ذلك، وكشف ولي الأمر عن ضيقه وتبرمه بمن وجد فيه مخالفة ما واشتد غضبه عليه، تسبب ذلك بانكماش العلاقة بين الأمة وولي أمرها، ومثل هذا الانكماش قد يقود إلى مزيد من الانحدار في هذه العلاقة ربما وصل حد إشهار السيف والتمرد على السـلطة. كما إن الحـلم يكشف أن صاحب السلطة والنفوذ لا يبادر إلى سلطته ونفوذه فيستعين بهما في التعامل مع مخالفيه بأي شكل، وهذا يعني أن القوة والسطوة لا توضع إلا في محلها المناسب والشرعي، وهذا يطمئن الأمة بدوره، ويزيد أكثر في الثقة بين الطرفين. [ ص: 57 ]
وإلى جـانب ذلك كانت الرحمـة بالأمـة هاجسا أشغل عمر رضي الله عنه كثيرا، متأسيا في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وكان يتحرى للأمة كل ما فيه تخفيف عنها ورحمة بها، فكان يخاطب الناس ويقول لهم: "إذا حضرتمونا فاسألوا في العفو جهدكم، فإني أن أخطئ في العفـو أحب إلي من أن أخطئ في العقوبة" [3] .
بل إن رحمة عمر رضي الله عنه لم تقتصر على البشر، فامتدت إلى المخلوقات الأخرى، فقد حدث الأحنف بن قيس قائلا: جئنا عمر بفتح كبير من إحدى جبهـات المشرق، فسـأله عمر رضي الله عنه : أين نزلتم؟ فقال: في مكان كذا، فقام عمر رضي الله عنه معهم حتى أتوا مكان رواحلهم، فجعـل عمر رضي الله عنه يتفحصها وينظر إليها ثـم قال: "ألا اتقيتـم الله في ركابكم هـذه؟ أما علمتم أن لها عليكم حقا؟ ألا خليتم عنها؟" [4] ، وذلك يعكس عن مبلغ ما يكنه عمر رضي الله عنه في صدره من الرحمة تجاه كل ما هـو حي، ولعل حسن تدبير شؤون الأمـة ومصـالحها هو من الرحمة بها أيضا. [ ص: 58 ]