- محل النـزاع بين المعتزلة والأشاعرة:
يتأسس الخلاف ابتداء بين المعتزلة والأشاعرة في مسألة التحسين والتقبيح العقليين، ثم في مسـألة التعليل، في ارتباطهما بالنظر الأصـولي، على خلفية ما يترتب عن موقف كل واحـد منهمـا من نتائج الأحـكام، مدحا أو ذما أو ثوابا أو عقابا في الدنيا والآخرة.
أما القائلون بالتحسين والتقبيح العقليين فلا يثبت ذلك عندهم إلا عقلا على وجه الغالب، والأشعرية يعرف ذلك عندهم بالشرع وحسب، وقد أشار أبو المعالي إلى ذلك بقوله: "لسنا ننكر أن العقول تقتضي من أربابها اجتناب المهالك، وابتدار المنافع الممكنة على تفاصيل فيها، وجحد هذا خروج عن المعقول، ولكن ذلك في حق الآدميين، والكلام في مسألتنا مداره على ما يقبح ويحسن في حكم الله تعالى، وإن كان لا ينالنا منه ضرر، ولا يفوتنا بسببه نفع لا يرخص العقل في تركه، وما كان كذلك فمدرك قبحه وحسنه من عقاب الله تعالى إيانا وإحسان إلينا عند أفعالنا، وذلك غيب، والرب سبحـانه وتعالى لا يتأثر بضررنا ونفعنا" [1] .
ويلخـص الإمـام القرافي ذلك بقوله: "أما كون الفعل يثيب الله عليه أو يعاقب فهو لا يعلم إلا بالشرع عندنا لا بالعقل، فمن أنقذ غريقا ففي فعله أمران، أحدهما: كون الطباع السليمة تنشرح له، وهذا عقلي، وثانيهما: أن الله تعالى يثيبه على ذلك، وهذا محل النـزاع، وكذلك من غرق إنسانا ظلما فيه [ ص: 68 ] أمران أحدهما: كونه يتألم منه الطبع السليم، وهذا عقلي، وثانيهما: أنه يعاقبه الله تعالى عليه، وهذا محل النـزاع، فهذا تلخيص محل النـزاع" [2] .
ويقول الشوكاني: "ومحل النـزاع بينهم كما أطبق عليه جمهور المتأخرين، وإن كان مخالفا لما كان عليه كثير من المتقدمين، هو كون الفعل متعلق المدح والثواب والذم والعقاب آجلا وعاجلا، فعند الأشعرية ومن وافقهم أن ذلك لا يثبت إلا بالشرع، وعند المعتزلة ومن وافقهم أن ذلك ليس إلا لكون الفعل واقعا على وجه مخصوص، لأجله يستحق فاعله الذم، قالوا: وذلك وجه قد يستقل العقل بإدراكه وقد لا يستقل" [3] .
ونتيجة هذا كله أحكام شرعية وعقدية لا بالنسبة للمكلف فحسب، بل لذاته سبحانه أيضا، "فإنهم يوجبون بالعقل خلود الكافر وصاحب الكبيرة في النار، وخلود المؤمن ووجوب دخول الجنة، وغير ذلك مما هو عندهم من باب العدل وفروع الحسن والقبح، ونحن عندنا هذه الأمور كلها يجوز على الله تركها وفعلها، ولا نعلم وقوعها وعدم وقوعها إلا بالشرائع" [4] ، لذلك فإن جوهر الخـلاف كما يقول الجويني، يكمن في وجوب الثواب والعقاب على الله تعالى "ولم يمتنع إجراء هذين الوصفين فينا إذا تنجز ضرر أو أمكن نفع، بشرط أن لا يعزى إلى الله، ولا يوجب عليه أن يعاقب أو يثيب" [5] . [ ص: 69 ]