الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          قيم الإسلام الحضارية (نحو إنسانية جديدة)

          الدكتور / محمد عبد الفتاح الخطيب

          ثانيا: السعي الحي [1] :

          والمراد بـ"السعي الحي"، في الأداء الحضاري، كل سعي في الكون موجها بقصد التعرف على المكون أفعالا وأوصافا، حريصا على "التوفيق الإلهي" و "العون الرباني"، متخذا "المنظومة القيمية الإيمانية" وسيلة، فيصل العلم بالأخلاق، والعقل بالغيب، والدنيا بالآخرة، وصلا حقيقيا، في عبودية شاملة لله تعالى، وهذا ما وضحه النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته رضوان الله عليهم أجمعين، حينما مر عـليهم رجـل، فـرأوا من ( جلده ونشاطه، فقالوا يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان ) [2] ، وهو مقتضى قول الله تعالى: ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ) (الإسراء: 19).

          وهذا السعي الحي يعد ضابطا أساسيا من ضوابط الحضارة؛ لاستمرارها في عطاء لا ينضب، وفاعلية لا تموت، فهو يضبط حركة الحياة، ويحافظ على [ ص: 40 ] ديمومتها واستمرارها؛ بما يضفيه على حركة الإنسان من غائية وقصد؛ إذ يوسع الإنسان من نظرته إلى الحياة، فلا يقصرها على الدنيا، وملذاتها المادية، بل يجعل وراءها حياة أوسع وأبقى ،لا عناء فيها ولا شقاء هي:"الآخرة" وارتباطها بإيثار مرضاة الله تعالى؛ مما يفرض على الإنسان نظرة أعمق وأشمل إلى مصالحه ومنافعه، فتتعادل في حساباته المصالح كلها، وتتوازن في مفاهيمه القيم الفردية والاجتماعية، قيم المادة وقيم الروح، ويجعل- بمقياس مرضاة الله- من الخسارة العاجلة لبعض حقوقه وحرياته الظاهرة ربحا حقيقيا في هذه النظرة العميقة، ومن الأرباح العاجلة خسارة حقيقية في نهاية المطاف، مادام كل عمل ونشاط في الحياة الدنيا يعوض عنه بأعظم العوض وأجله في الآخرة، وهو ما يوضحه قوله تعالى: ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ) (الإسراء: 18– 19) فالعبد لا يزال رابحا على ربه أفضل مما قدم له، وذلك على قاعدة: ( من ترك شيئا لله أعاضه الله خيرا منـه ) والتي جاء تأصيلها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسند الإمام أحمد من حـديث أبي قتادة وأبي الدهماء، قالا:"أتينا على رجل من أهل البادية فقلنا: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا؟ قال: نعم سمعته يقول: ( إنك لن تدع شيئا لله عز وجل إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه ) [3] ، وهذا لا يتحقق في ظل أي فهم مادي لقيم الحياة، بل لا يتحقق [ ص: 41 ] إلا في ظل الإسلام الذي يربي في المسلم قيم: "التقوى" و "الورع" و "الإيثار" و "تصحيح النوايا" و "الانتصاف من النفس" و "تعميق الحساسية الإيمانية".

          وهذا "السعي الحي" في البناء الحضاري الإسلامي، مغاير لطبيعة السعي في النمط الغربي، طيني المنبت، المنبت عن الله غاية له، وعن منهجه وسيلة، فإن آفاقه أصبحت محدودة بحدود منبته المادي؛ حيث يقوم على"التحكم في الظواهر" و "قلب المفاهيم" و "إشباع الرغبات والملذات" و "التنقل في مراتب المادة" و "الانقطاع عن الخالق" و "الظلم والعدوان" و "بخس الناس أشياءهم" و "الإخلاد إلى الأرض" وهي أمور لا امتداد فيها، حتى نستطيع أن نسمي السعي إليها بـ" السعي الميت" [4] ؛ فالساعي فيها إما سـاع إلى هـلاك، وإما إلى جمود، فيكون كالميت المقبور؛ ولذلك فإن المنخرطين فيه لا يلبثون أن يشعروا بأن مشروعهم قد وصل إلى سقفه، وانه استنفد أغراضه، فتنتهي الآمال لانتهاء الغاية، وينفد الوقود المحرك للحياة فلا يبقى، إذن، إلا "القلق" و "الهم" و "اليأس من الحياة" و "ضياع المعنى لكل شيء"، ويطلق على هذا اللون من السعي في المنظور الإسلامي:"زينة الحياة الدنيا" إذ سرعان ما تنقلب على أصحابها وبالا وشقاء [5] ، يقول تعالى: ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ) (الكهف: 46) ويقول [ ص: 42 ] سبحانه: ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) (يونس: 24)، كما يطلق عليه:"المعيشة الضنك"، قال تعالى: ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) (طه:124) ، فالإنسان، في هذا اللون من السعي-"السعي الميت" المجتلب لـ"زينة الحياة الدنيا" و "المعيشة الضنك"- يفقد قيمه كلها، وسعيا وراء "مثله الأعلى" الذي اشتقه من طموحه المحدود، ونظراته القاصرة، فكان "الضياع" و "التيه" [6] ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في مقارنة دقيقة بين هذين النمطين من السعي : ( من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ) [7] ، وهذا معنى قوله: [ ص: 43 ] ( من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ) (الشورى: 20) وقوله: ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) (الرعد:28) والوصول إلى ذلك "لا يمكن إلا بأن يستضيء العقل بنور الشرع، معتمدا على من له الخلق والأمر" [8] .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية