الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    معلومات الكتاب

                    استشراف المستقبل في الحديث النبوي

                    الدكتور / إلياس بلكا

                    مقدمة

                    الحمد لله وحده، عالم الغيب والشهادة، الكبير المتعال. وأفضل الصلاة وأتم التسليم على النبي الأمي، خير المعلمين والمربين، وعلى آله المطهرين، وصحبه الكرام البررة أجمعين.

                    وبعد، فإن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم -بمعنى ما أضيف إليه- منبع ثر للعلم والحكمة والحضارة. تنقضي الأعمار دون الإحاطة به وبفـوائده. ولم يترك النبي الكريـم بابا من أبواب الوجـود إلا وأشار إليه وبين بعض ما فيه، " فعن أبي ذر رضي الله عنه ، قال: «لقد تركنا محمد صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علما.» " [1] .

                    إلا أن عنـاية العـلماء بأبواب الحديث درجات متفاوتة؛ إذ بالغوا في دراسة بعضها كالعبادات وأكثر المعاملات وكثير من العقائد، بخلاف الأحاديث التي تعرضـت لقواعـد العمـران وسنن الأنفـس والمجتمعات وآداب الحضارة... ونحوها، يقول الشيخ محمد عبده : «لم يقصر المصنفون [ ص: 25 ] من المتقدمين والمتأخرين في شيء من علم الكتاب والسنة، كما قصروا في بيان ما هـدى إليه القـرآن والحـديث من سنن الله تعـالى في الأمم، والجمع بين النصوص في ذلك والحث على الاعتبار بـها. ولو عنوا بذلك بعض عنايتهم بفروع الأحكام وقواعد الكلام لأفادوا الأمة ما يحفظ دينها ودنياها. وهو ما لا يغني عنه التوسع في دقائق مسائل النجاسة والطهارة والسلم والإجارة، فإن العلم بسنن الله تعالى لا يعدله إلا العلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله، بل هـو منه أو طريقه الموصـل إليه» [2] .

                    لكننا لو تتبعنا كلام العلمـاء في شرح الأحـاديث لوجدنا جملـة صالحـة منه تتعلق بالقيم الحضارية، لذلك فالمطلوب هـو استيعاب هـذا التراث أولا، ثم البناء عليه وتطوير آفاقه.

                    لذلك فإن هـذا البحث الذي أقدمه مساهمة بسيطة في دراسة الحديث النبوي؛ من حيث ما يحتويه من أصول وتوجيهات تخص الاجتماع البشري، خاصة ما يتعلق منها بالقيم المؤسسة للحضارات والثقافات. وقد وقع اختياري على قيمة المستقبل: استشرافا وإعدادا ودراسة؛ ذلك أن الاهتمام بالمستقبل ليس ترفا فكريا بل هـو ضرورة يأمر بها الدين، وتفرضها التغيرات المتسارعة، التي يعرفها عالمنا المعاصر. ويطلق على هـذا الحقل الدراسي الحديث النشأة اسم: «المستقبلية»، أو علم المستقبل. ويعنون به: مجموعة المناهج [ ص: 26 ] والأبحاث حول التطور المستقبلي للإنسانية -أو لقسم منه، أو لقضية من قضاياها- تمكـن من استخلاص عناصر التوقع [3] .

                    وهذا الجانب بالضبط -من السنة- لم يحظ بما يستحقه من دراسات وبحوث، وإن كتب بعضهم في قضايا قريبة، أهمها: «الرسول باعتباره مخبرا عن المستقبل». وقد توسع في هـذا القاضي عياض في كتابه: الشفا، وكتب محمد الندوي «نبوءات الرسول: ما تحقق منها وما لم يتحقق»، وصدر مؤخرا لحسام الأسعد «نبوءات الرسول». واعتنى المحدثون من قديم بالتأليف في إخبارات الرسول عليه الصلاة والسلام ، بمستقبلات معينة؛ أهمها الفتن القادمة وأشراط الساعة، منهم نعيم بن حماد في كتابه: «الفتن»، وابن كثير في: «النهاية في الفتن والملاحم»، ومحمد البرزنجي في: «الإشاعة لأشراط الساعة»، وصديق القنوجي في: «الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة».

                    إن هـذه الكتب وقضاياها ليست موضوع بحثي هـذا؛ ذلك لأن إخبارات النبي الكريم بالمستقبل تعتبر جزءا من وظيفته الرسالية، فهي من الغيب الموحى به، بينما الذي أود دراسته هـنا هـو -بالدرجة الأولى- تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع المستقبل باعتباره إماما وبشرا مجتهدا، ينظر إلى المستقبل، ويعد له [ ص: 27 ] ويخطط ويفكر فيه دون أن يكون بالضرورة مؤيدا في ذلك بوحي مباشر وصريح يخبره عنه ويوجهه. والدراسات في هـذا المنحى قليلة، أكثرها تهتم بمسائل محددة. لذا سيلاحظ القارئ عدم اعتمادي هـذه الكتب. ورغم ذلك فإنني تعرضت أيضا لموضوع الإخبار النبوي بالمستقبل، وذلك بشكل محدود بآخر هـذه الدراسة؛ لما لذلك من أهمية خاصة اليوم، حيث نحتاج إلى فقه صحيح لهذه الإخبارات يمنع ما يمكن أن يسببه سوء فهم بعضها من خطأ أو انحراف.

                    وقد قسمت هـذا البحث إلى ثمانية فصول: أولها: يؤصل للمستقبلية من السنة الشريفة. والثاني: يتعلق بالتفرقة الكبرى التي عقدها الرسول عليه السلام بين طريقتين بشريتين في توقع المستقبل: طريقة علمية منهجية، وأخرى تنبئية خرافية. ثم تعرضت في الفصل الثالث: لأسس الاستعداد النفسي للتعاطي مع مشكلات المستقبل من خلال الحديث. أما الرابع: فهو استقراء لبعض أبرز التطبيقات النبوية لقيمة المستقبلية في حياته صلى الله عليه وسلم ، بينما خصصت الخامس: لآداب التعامل مع شئون المستقبل، وجاء الفصل الأخير لإثارة ما سميته بـ: «فقه السنة المستقبلية». وختمت في النهاية: بأهم النتائج والتوصيات.

                    إن غاية هـذا الكتاب هـي الكشف عن «المستقبلية» في السنة النبوية، باعتبارها قيمة حضارية كبيرة، ومؤثرة في تطور الأفراد والمجتمعات. وكذا تقديم نموذج للتعامل مع الحديث يجمع بين احترام أصول الحديث ومراعاة القواعد الفنية للصنعة الحديثية من جهة، وبين استفتاء السنة في قضايا العصر والعالم [ ص: 28 ] وربطها بها من جهة أخرى. كذلك يندرج هـذا الكتاب في محاولة وضع ما أسميه بـ: «الشرح الموضوعي» للسنة، على غرار التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، بحيث نفقه الحديث النبوي باعتباره كلا موضوعيا، لا أخبارا جزئية متناثرة، لذا سيلاحظ القارئ كيف أن هـذا البحث نظم عشرات الأحاديث في سلك واحد، وبين وحدتها وخدمتها لموضوع واحد، هـو هـنا: المستقبل، وما يتعلق به من الاستشراف والتخطيط والإخبار.

                    والحمد لله رب العالمين.

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية