3- حق اختيار الزوج
من سنن الله في الكون أن يجعل لكل شيء زوجا،
يقول تعالى: ( ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) (الذاريات:49) ،
ومن هـنا كانت الرغبة في التزاوج علاقة فطرية نظمها الله تعالى في الزواج.. وهذه العلاقة في الإسلام علاقة حرة كاملة الإرادة، تقوم على التراضي بين الطرفين، فلا الرجل يقبل الزواج ممن لا يحب، ولا المرأة ترغم على قبول من لا تريده.. والعلاقات الأسرية التي تنتج من هـذا الزواج إذا بنيت على أساس إسلامي صحيح تتجاوز الدنيا والفناء لتعيش حياة أخرى في الجنة،
مصداقا لقوله تعالى: ( جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ) (الرعد:23) ، [ ص: 65 ] ولذلك كان بيت كل إنسان هـو مركز حياته الدنيا، الذي يعبر منه إلى حياة الآخرة. ومن هـنا يعطي الإسلام للإنسان حق اختيار من يعمر أرجاءه بما يريده من عمل صالح وتقوى وتذوق نعيم الرحمة والمودة والسكن، كي تمضي سفينة الحياة إلى ما شاء الله تعالى لها أن تمضي هـانئة مستقرة، تتحمل مسئولية التحديات الحضارية، وتستطيع مواجهة كل ألوان الباطل بقوة وثبات، لأن تكوين أسر صالحة قائمة على الاختيار الصحيح يصحح مسيـرة الأمة، ويدفع بها مرة أخرى لتتبوأ مكانتها بين الأمم.
ومن هـذا المفهوم نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد حق الاختيار وضرورته، سواء بالنسبة للرجل أو للمرأة، وهناك أحاديث كثيرة في هـذا المجال، وربما كان ( حديثه صلى الله عليه وسلم : «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن )
[1] ، من أكثر الأحاديث دلالة على أهمية اختيار المرأة لزوجها، وهو اختيار تستطيع به فرض شخصيتها، والمشاركة في الحياة الأسرية دون أن تكون تابعا فيها،
انطلاقا من قولـه تعالى: ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) (البقرة:187) ،
واللباس المتبادل في هـذه الآية يحيل على القمة في المشاركة والتشاور [ ص: 66 ]
الأسري لم تستطع بلوغه أي حضارة من الحضارات إلا الحضارة الإسلامية، بل إن توزيع المسئوليات في الأسرة بينها وبين الرجل يقوم على أساس طبيعة كل منهما، حتى تتمكن المرأة من القيام بواجباتها على أكمل وجه ونابع من طبيعة الاختيار والرضى،
يقول تعالى: ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) (النساء:34) ،
والقوامة ضرورية لتنظيم الأسـرة وليست للتفاضل، فهي تكليف وليست تشـريف، وهذا يعني أنه لا مجال لفرض أي شـيء عليها لمجرد الهوى أو إثبات نزعـة السـيطرة، أو أن هـناك تعارضا أو انتقاصا من قيمة المشـاركة، وإنما الآية تقرر توزيع المهام حتى تسيـر سفينة الحياة الأسرية بيسر، فالمرأة هـيأ الله لها طبيعة تجعلها أكثر حنانا، وأعظم صبرا من الرجل، الأمر الذي يخولها رعاية بيت الزوجية ورعاية أبنائها بتدبر وحكمة، كما جعلها أول من تلقن الإنسان بذرات التربية والتوجـيه مع أولى قطرات الحليب الذي يدخل جسـمه، ليكون من مكونات شخصـيته الأساسية؛ وكل هـذه الأمور ترتبط بالبيت أكثر، كمـا ترتبط بمـراكز الرقـة والحنان ومنابعها. [ ص: 67 ]
كما هـيأ الله الرجل طبيعة أكثر قوة وحزما تجعله أصلح للكسب والإنفاق والعمل، الذي يحتاج إلى القوة والصرامة ومجابهة مختلف مشكلات الحياة.
والقيام بـهذه المسئوليات، والتوازن بينها في إطار التشاور، كما فرض الله عز وجل ، لن يكون سويا ومتكاملا إلا إذا قامت العلاقة بين الزوجيـن على التساكن والتواد والرحمة كما قررها الله عز وجل في قولـه تعالى:
( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) (الروم:21) ،
وعلاقات المودة والرحمة تجعل المؤمن يتجاوز بعض الهفوات التي قد تصدر من شريكه، ويتغلب عليها بأخلاقه السامية والترابط الصادق المجرد عن الماديات، ولنا المثل والنموذج الأعلى في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم في بيته مع أزواجه وأسرته، ولنا القدوة الصالحة في منهجه النبوي في مختلف المعاملات، وكثيرا ما تستوقفنا في هـذا المجال علامات مضيئة يجب أن نستهدي بها، منها لكي نتعامل مع بعضنا بعضا بما يرضى الله تعالى، ولكي تستطيع اجتياز هـذه الحياة الفانية إلى الحياة الأبدية بيسر وكرامة:
أ- المعاشرة بالمعروف لا شك أن طبيعة العشرة الزوجية يجب أن تقوم على احترام المشاعر والرغبات المتبادلة، كما أن الاحتكاك [ ص: 68 ] اليومي ومشكلات الحياة وأزماتها تولد نوعا من المشاحنة وشيئا من التصادم، ولذلك نجد بعض العلماء يشرح العشرة بالمعروف في قوله تعالى:
( وعاشروهن بالمعروف ) (النساء:19) ،
بأنها العشرة بإحسان للزوجة إذا وقع منها إساءة، وقد نجد هـذا التفسير مقبولا إذا ما اطلعنا على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ( فعن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال: «... وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصخبت على امرأتي، فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، قالت: ولم تنكر أن أراجعك! فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل، فأفزعني ذلك ... )
[2] .
وإذا كانت المراجعة في هـذا الحديث تتضمن الممارسات اليومية بين الزوجين، وتبين العشرة بالمعروف التي كان يطبقها صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، فإنها تكشف في الوقت نفسه عن طبيعه المعاملة الجنسية الراقية والحضارية التي كان يتعامل بها رسول الله مع أزواجه، واحترام رغباتهن، دون إلزام أو استخدام القوة، ولذلك نجد الحافظ ابن حجر يقول معلقا على التفاهم في العلاقة الجنسية بين الزوجين، وأحقية الزوجة في مراجعة زوجها إذا [ ص: 69 ] رغبت في ذلك دون حرج: «... وفي الحديث: أن شدة الوطأة على النساء مذموم، لأن النبي أخذ بسيرة الأنصار في نسائهم وترك سيرة قومه....»
[3] ، ومن خلال الاهتداء بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم في معاملاته لأزواجه، والرأفة بهن، يمكن أن نتفهم القولة المشهورة: إن البر بالمرأة ليس كف الأذى عنها وإنما بتحمل الأذى منها.
ب- التعاون المنـزلي إن الحرص على تقديم المساعدة للزوجة يولد الإحساس بارتفاع مكانتها عند زوجها وتقديره لعملها، ويشعرها بالاعتزاز بنفسها، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارات لمدى تفهمه لعمل المرأة المنـزلي وتعاونه معها فيه، ( فعن الأسود قال: «سألت عائشة: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة )
[4] ، ويقول ابن حجر : «... وقد وقع في حديث آخر لعائشة أخرجه أحمد وابن سعد وصححه ابن حبان..قالت: يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم»
[5] . وهي أحاديث [ ص: 70 ] في مجملها توضح أن المرأة لم تخلق لخدمة البيوت، وإنما يجب أن تقوم بها تكرما منها وطلبا لرضى الله، وزوجها مطالب بمساعدتها وتخفيف الأمر عنها كي تسيـر الحياة بينهما بيسر وسكينة. وهذا يسلمنا إلى حثه صلى الله عليه وسلم على التعاون في تربية الأطـفال وحضـانتهم، ( فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم «... إن لولدك عليك حقا )
[6] ، ويبلغ التعاون مداه بين الزوجين في الإنفاق، فإذا كان الأب هـو المسئول عن الإنفاق على زوجته وولده فإن للأم أن تنفق على زوجها وولدها ويعد ذلك صدقة لها، فقد ( روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لزينب امرأة ابن مسعود: « ... زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم )
[7] .
وإذا ألقينا نظرة على أسباب التفكك الأسري في مجتمعاتنا، نجد أن من أهمها عدم ترشيد التعاون بين الزوجين في مسألة تربية الأطفال والإنفاق عليهم، ولو اتبعت الأسرة المسلمة المنهج النبوي في التعاون والحب والاحترام المتبادل وتدبير شئون الحياة بينهما لما سقطت في التفكك والانحلال، والمرأة مسئولة مع زوجها عن المحافظة على بيتها، واتباع سنة نبيها صلى الله عليه وسلم كفيلة بذلك، للنهوض بالمجتمع وتنشئة [ ص: 71 ] أفراده على الصلاح، لأن الأسرة هـي النواة الأصل لبناء مجتمع إسلامي سوي، وهي المحضن الطبيعي لإعداد الإنسان الحضاري الفاعل في أمته، الذي يصدق فيه ( قوله صلى الله عليه وسلم : «إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وألطفهم بأهله )
[8] .
ويمكن لنا أن نؤكد بعد هـذا أهمية الاختيار، كما يمكن أن نتساءل عن طبيعة الأفراد والشخصيات التي يمكن أن تربيها الأسرة الملتزمة بالمحجـة البيضاء والقائمـة على الاختيار الديني الواقعي.. كما يمكن في الوقت نفسه أن نعتز بمباهاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمم بنا وبذريتنا الصالحة.