ثالثا: الاجتهاد في طلب الهدى الشرعي
وأما الاجـتهاد في طلب الهدى الشرعي، فذلك ببذل الجهد الشرعي -من أهله- للوصول إلى الهدى المسـتقيم في نصرة الله عز وجل : وهذا يقتضي - مما يقتضيه- إعمال العقل في البحث عن مراد الله سبحانه وتعالى في كلامه أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإعمال الجوارح في القيام بما يحب الله عز وجل ،
وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى : ( ولينصرن الله من ينصره ) (الحج:40) ، ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) (محمد:7) ،
ونصرة الله عز وجل تشمل القيام بدقائق الإسلام وجلائله؛ إجهادا للنفس في الوصول إلى مراد الله سبحانه وتعالى ، مما يؤدي إلى الاستقامة على الهدى المستقيم:
( وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ) (الحج:54) ،
( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) (العنكبوت:69) ،
ولذا عرف صاحب (مسلم الثبوت) الاجتهاد: بأنه بذل الطاقة من الفقـيه في تحصيل حـكم شـرعي ظني [1] .
ولكن هـذا الإعمال للعقل والجوارح ابتغاء مرضاة الله عز وجل مقيد بالضوابط العلمية لفهم النصوص؛ وهي ضوابط جمعت من استقراء النصوص، ومقيد كذلك بكيفية فهم الرسول صلى الله عليه وسلم للنصوص وتطبيقه لها، وكيفية اتباع الصحابة رضي الله عنهم لذلك؛ إذ قد شرفهم الله سبحانه وتعالى بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فتأهلوا لتأويل نصوص الوحي المعصوم، ووضعه في مواضعه بما لم يتأهل له غيرهم، " كما قـال إبراهيم [ ص: 45 ] التيمي : خلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم يحدث نفسـه، فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنه فقال: كيف تختلف هـذه الأمة ونبيها واحد، وكتابها واحد، وقبلتها واحدة؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه : «يا أمير المؤمنين، إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيم أنزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يعرفون فيم نزل، فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا.» فزجره عمر وانتهره، فانصرف ابن عباس رضي الله عنه ، ثم دعاه بعد فعرف الذي قال، ثم قال: «إيه أعد علي» " [2] .
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم من أوائل من أرادوا المسلمين على التزام ضوابط الفهم للنص المعصوم، فعن هـشام بن عروة ، عن أبيه، قال: قلت لعائشة زوج النـبي، وأنا يومئذ حديث السن: «أرأيت قول الله عز وجل : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) (البقرة:158) ، فما نرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما. فقالت عائشة : كلا، لو كانت كما تقول كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما. إنما أنزلت هـذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد ، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله:
( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) (البقرة:158) » [3] . [ ص: 46 ] وأحكام الدين من حيث كونها محكمة أو مجالا للاجتهاد ومن ثم الاختلاف ترجع إلى قسمين:
- قسم هـو أساس الدين: سواء ما يتصل منها بالعقيدة أو الأمور العملية، وقد وردت في آيات محكمة لا تحتمل التأويل، ولا تثير الاختلاف؛ لأن الله سبحانه وتعالى أراد أن تكون هـذه الأمور ثابتة على مر العصور كأصول العقيدة الإسلامية، ومنها أركان الإيمان الستة إجمالا، وأركان الإسلام الخمسة، وأكثر أحكام المواريث، وأصول أحكام الأحوال الشخصية، وأصول الأحكام الحارسة للكليات الخمس.
- وقسم تنتمي إليه معظم أحكام الفقه الفرعية، وقليل من الجزئيات العقدية الموغلة في الفرعية: فكانت محلا لاختلاف الأنظار بحسب مبلغ علم كل ناظر، وبحسب جهده في إعمال أدوات الاستنباط في كل مسألة، وهذه حكمة العليم الخبير. وعلى هـذا فاختلاف الأنظار لا ضير فيه؛ إذا لم يكن مبنيا على الهوى والتشهي، وكان المراد منه تحري الصواب قدر الإمكان، وهذا دال على مدى قصد الشارع لاجتهاد من يملكون أدوات الاجتهاد في الاستنباط، وإن وقع الاختلاف بينهم [4] .
والاجتهاد لا يكمن فقط في إدراك الحكم الشرعي في الواقعة الجزئية، والاستسلام لحكم الله فيها بعد معرفته بل في الاجتهاد أيضا في تنزيلها على الواقع وفق الشرع، وفي هـذا الباب قد تتفاوت الأنظار، وتختلف الموازنات، وباستصطحاب الأسس السابقة يتم التعامل في المختلف فيه. [ ص: 47 ]