نحو خطاب حضاري بديل: ملاحظات ختامية
لم تكن دوافع الهجرة الإسلامية نحو الغرب ومنطلقاتها اختيارية في عمومها، فهي وليدة إكراهات عدة محلية ودولية، بحثا عن الرزق والأمن والرفاهية، وتلبية لحاجات الغرب في دعم موارده البشرية وتغطية عجز نموه السكاني. أما الوجه الاختياري في هـذه الهجرة فمدخله الأساس ومقتضاه هـو السـنة التاريخـية، التي أشـار إليها « ابن خلدون » في مقدمته حول ولع المغلوب في الاقتداء بالغالب، وهو ولع يتنـزل في عالمنا اليوم ضمن حضارة الغرب، طلبا للمعرفة والعلـم، أو استفادة من التجربة التقنية والمؤسسية، أو انبهارا بالتجليات الشكلية في العادات والذوق.
والوجه الإرادي في مشهد الاختيار هـذا ضعيف، لكونه يفتقر إلى رؤية ذاتية في تصور الهجرة تحصنه من مزالق الذوبان والانصياع لإرادة الغالب. فبمثل ما هـاجر إلينا الغرب «مستشرقا»، دارسا لحكمة تراثنا الإسلامي، فإن عالم الإسلام اليوم يمتلك الطاقات البشرية الكاملة للهجرة العلمية الدراسية للغرب، ضمن مناهج يستنبطها فـي نقد العلوم الاجتماعية، أو النقد التاريخي، أو الأدبي، أو الأديان المقـارنة، أو ضمن إطار ما يعرف « بالاستغراب » في مقابل « الاستشراق ».
قد لا يكون مجديا مقابلة استغراب "إسلامي" باستشراق [ ص: 146 ] "غربي"، لاختلاف المنطلقات الفلسفية والأخلاقية الإسلامية عن الغربية، وإلا فسنحدث نمطا تغريبيا جديدا في دراسة الغرب. ولن تكون محاولاتنا في نقد الغرب سوى إنتاجا لنسق تقليدي جديد، فضلا عن أن منهج الاستشراق، المزيج بين التاريخي والإنثروبولوجي والثيولوجي ، لم يعد يفي بحاجة مناهج البحث الحديثة التي تعتمد الدقة في المقاربة، وتتبنى مناهج العلوم الاجتماعية في دراسة تراث الإسلام، وهو ما يفسر تنامي علماء الاجتماعيات المتخصصين في دراسة الإسلام، من مثل « بورجا » و « آتيان » و « سيزاري » وغيرهم.
وليس الغرب كوما من الأيديولوجيات والمواقف يسهل دحضها بتصورات فكرية بديلة، فهو معنى حضاري يحوي فلسفات وعلوم وأنساق من التفكير مركبة، لا يمكن أن يواجه إلا بمشروع حضاري متكامل ومركب كذلك، ينظر إلى الأبعاد المختلفة في تأسيس الحضارة، النفسية والعقلية والروحية، ويجعل الهدف الأسمى له بناء الأجيال قبل بناء الأبطال، وبناء المدنية في أوسع وأدق مؤسساتها قبل النماذج المثالية التجريبية المصغرة، التي برعت الحركات الإصلاحية المعاصرة في الترجمة لها.
إن البشرية وهي تمر بمنعرج مقولات "موت الإنسان" و "نهاية التاريخ" لفي أمس الحاجة إلى بديل حضاري قابل للدراسة بلغة العصر، وقابل للفهم بمناهجه وأدواته، يستطيع أن يوازن بين حاجات [ ص: 147 ] الروح وإبداع العقل ومتطلبات الواقـع. وإن الفـكر الإسـلامي بما يمتلكه من ميراث ومحصول حضاريين هـائلين قادر أن يتطور من فكر جماعي ومذهبي وفرقي ضيق نحو فكر يخاطب الإنسانية جمعاء، يتجاوز عقد الخوف من الغرب ومن حداثته، أو عقد التعالي عليه والتحقير من شأنه، نحو إدماج قضاياه ضمن القضايا الرئيسة التي تستلزم ردودا عميقة. فالخطاب الإسلامي لا يزال يتكبد وقع الصدمة الحضارية التي خلفها الاكتساح الغربي الشامل، التي ألزمته مراوحة ذاته طيلة القرون الثلاث الأخيرة لنهضة الغرب الحديثة.
ثم لا بد أن ندرك أن لا سبيل لخطاب دعوي معاصر فاعل داخل الحدود الجغرافية للغرب أو خارجها لا يستطيع أن يكون حجاجيا ومجادلا بالتي هـي أحسن، بالمعنى القرآني، إن هـو لم يجب عن تحديات الحداثة ولم ينخرط في تساؤلات ما بعد الحداثة. فالجمهور الإسلامي والغربي على حد السواء لا يمكن أن يقنع مستقبلا بخطاب الطمأنة المتداول بكون الإسلام يمتلك الحل، كل الحل، وأن الحضارة الغربية هـي حضارة "المسيح الدجال"، وهي تنذر بعلامات اقتراب الساعة واقتراب أفولها. لقد تأسست جميع مدارس الفكر الأصولي والكلامي والفلسفي والتربوي والعمراني على مناهج المحاججة، التي تفترض صلاحية الفكر الإسلامي للجميع، ولزوم أن يكون خطابه عالميا مقنعا، لدى المسلم وغير المسلم، فيكون حينئذ تعبيرا عن فكر ناقد لمذاهب [ ص: 148 ] ونحل العصر، ومقارن لها، ومنافح عن الدين ضد أخطارها.
إن زمن العولمة يفرض أكثر من أي زمن غربي مضى تحديات خطيرة على وحدة هـوية الخطاب الإسلامي. فالغرب يدرك أن هـوية الخطاب الإسلامي الحضاري المتوازن والإنساني قادر على إحراج مقولات حضارته المنهكة قيميا. ولم تكن نظرية « هـنتنغتون » في ترشيح الإسلام لمواجهة مستقبلية مع الغرب ضمن مستقبل التوازنات الحضارية الدولية، مجرد زلة لسان أو افتراض مجنون، بل هـو يعبر به عن مخاوف الغرب الحقيقية في أن يحل «شرق» عالم الإسلام محل «شرق» عالم الشيوعية لإحداث مستقبل المعادلة معه، رغم ما يبدو على عالم المسلمين اليوم من وهن تاريخي كامل.
إن زمن العولمة وهو يبسط نفوذه الكامل على جميع أنظمة وشعوب العالم المستهلك والأقل إنتاجا، ويشل تدريجيا من وحدة مرجعياته الثقافية والدينية، إنما يستهدف أساسا الإسلام؛ لأنه الأقدر على الثبات في وجه تحديات ومحاولات الإذابة والانصهار، وعلى الاستفادة من الضربات، حتى في أقسى تعبيراتها.
فقد يكون الفكر الإسلامي هـو المستفيد الأكبر من تحول نمط المجتمع القومي الواحد إلى نمط المجتمع المتعدد الثقافات، باعتبار أن هـذا النمط الجديد يتسق تماما مع فلسفة الاجتماع الإنساني في الإسلام، وييسر مهمة الدعوة ونشر الرسالة، كما أنه الإطار الأمثل [ ص: 149 ] لبلورة التصور الإسلامي الحضاري. ولئن كانت غاية عولمة الاتصال هـي تسهيل تنقل الرأسمال المادي وتبادله، فإن نتائجه من جهة الشعوب أفضت إلى مزيد من التقارب وتبادل المعلومات والمعارف بينها. فالرأسمال البشري ينافس الرأسمال المادي في احتكار المعلومة، وهذا يمثل خطرا كبيرا على أنظمة العولمة لما نعلمه عن القيمة الاستراتيجية لبنوك المعلومات الدولية التي تحتكرها.
إن فكرة المواجهة بين عولمة الشعوب وعولمة رأس المال إنما تؤكد كذلك مصداقية المقاربة الإسلامية في الإيمان بأولوية أمانة الإنسان الأخلاقية على اعتبار المصلحة المادية ومراعاة مستحقيها والمستفيدين منها. فالقسط بين الناس هـو ميزان أخلاقي سماوي، لا غنى عنه في ضبط الحقوق المالية بين الناس.
وكلما اتسع أمام الخطاب الإسلامي المستقبلي أفق الدراسة المقارنة للغرب، اتسع فضاء الثقة بالذات ومستوى القدرة على التعامل مع التراث وإمكانات استشراف غد رائد لأمة الإسلام. فإذا كانت الهجرة الإسلامية المعاصرة قد سبقت الوعي بقيمة «خطاب الهجرة» الضابط لفلسفتها وحكمتها، فإن معركة المواطنة التي تخوضها داخل الغرب تفرض عليها التسلح بالفكر وبعد النظر لانتزاع الحقوق وشرح الأنموذج الإسلامي الجديد، الذي قد تشرق شمسه على العالم كله وعلى عالم الشرق الإسلامي من داخل ديار الغرب. [ ص: 150 ]