في النمط الجديد للهجرة نحو الغرب
إن الاختلال الكامل في التوازن بين عالم الجنوب والشمال أعطى لهجرة الجنوب نحو الشمال صورة دونية، دافعها الأساس ليس البحث عن الحقيقة بقدر ما هـو البحث عن خلاص معيشي من خطر البطالة والفقر والجوع الذي يتهدد أهلها.
إن صورة الهجرة الإسلامية لدى الإعلام والرأي العام الدولي يغلب عليها معنى هـجرة الهامش من اليد العاملة غير المتخصصة، والكوادر العاطلة، والعقول الحرة المهجرة اليائسة. وهي صورة تقترب من حقيقة الحال ولكنها تندرج ضمن خطة الغرب في التحجيم من القيمة المستقبلية للهجرة الإسلامية، وتحويل وجهتها الاستراتيجية البنائية والتوطينية نحو إدارة أزمات الوجود اليومي في الغرب، داخل دوامة الاعتراف وضمان الشغل والسكن والأمن تجاه أخطار الاتجاهات النازية الحديثة المتنامية. إن الغرب وهو يعمق مصاعب إمكانات الوجود الاستراتيجي الفاعل للمسلمين في دياره، رغم شعاراته التمويهية عن الاندماج والمواطنة المتعددة الثقافات، التي يخدم بها غاياته الانتخابية المؤقتة وغاياته الاقتصادية الدائمة، إنما يزيد في ترسيخ سياسات هـجرته العولمية المهيمنة على أوطاننا.
إن الغرب يدرك القيمة الحضارية للهجرة، وحتمية أن تنهض أمة الإسلام من جديد بطريق الهجرة، من خلال دراستها ونقدها لتجربته [ ص: 126 ] وتهيئتها للمخزون الروحي والثقافي والحضاري لعالم الإسلام، وهو منهج الاستيعاب والتجاوز الإسـلامي، الـذي لا يتبنى الثـورة ولا المسايرة، وإنما الإصلاح البناء المتوكل على الله في كل أمره:
( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ) (هود:88) .
وكثيرا ما ترفع عناوين الحوار الحضاري والتقارب بين الشعوب وعولمة الثقافة ليست لغايات تحرير الأمم المغلوبة من قبضة الغرب الغالب، إنما لتعميق صهر إراداتها ضمن نمطية الغرب، وشل قواها عن الإبداع. فهو منهج يقوم على امتصاص طاقات المقاومة لتيار التغريب داخل الأمم المغلوبة وإفراغ مخيلتها ومخزونها الثقافي من الإيمان بذاتها والاعتزاز بهويتها ومقوماتها الحضارية.
إن ظاهرة تنامي مجتمعات الهجرة والتعدد العرقي والديني تسير ضد تيار نمطية العولمة، التي عملت على طمس الهويات الجمعية وإذابتها ضمن الهوية الغربية الواحدة ادعاء بنهاية زمن الأمم وبداية وحدة الهوية العالمية تحت خيمة رأس المال وسلطة اقتصاد السوق. ليست هـذه الظاهرة إذا نتيجة إرادية ومدروسة، لا من قبل الغرب ولا من قبل باقي الأمم والثقافات المعاصرة. ولا تعبر هـذه الظاهرة عن وحدة مجتمعية أو أنموذج في التعددية الثقافية، إنما هـي عبارة عن تداخل وتراكم عرقي وثقافي فرضه تطور الحاجة إلى التبادل بين [ ص: 127 ] الأمم، حاجة إلى التوسع وبسط النفوذ من جهة الغرب، وحاجة إلى اللجوء إلى الأمن والكفاف من جهة باقي شعوب العالم.
إن غياب الفكرة الموجهة أو القادرة على استيعاب هـذه الظاهرة وتحويلها إلى أنموذج في الاعتراف بالهويات الجماعية الأقلية، أمام مصادمة الغرب لهذا المطلب الجديد الذي يعم أرجاء العالم وليس عالمه فحسب، يجعل منها ظاهرة حساسة قابلة للاستعمال المصلحي من الغرب أو التصدع في مواجهة أبسط الاختبارات في تقنين التعايش بين الجماعات المختلفة.
فعلى الرغم من أن تطور الهجرة الفردية إلى الغرب نحو تشكل وحدات جماعية عرقية وثقافية بل وحتى دينية، يمثل إكراها جديدا وتحديا خطيرا على الحداثة الغربية الأحادية، غير أن طبيعتها القهرية غير الإرادية تجعلها سهلة الاستعمال من الغرب ذاته، لحجب نمطيته وتنميق صورته التعددية في العالم، التي باسمها وباسم وحدة شعوب العالم يستزيد ويضاعف من إمكاناته على التحكم في مقدرات العالم. كما أنه ليس من قبيل المفارقة أن يرافق هـذا التنامي لمطلب الاعتراف بالهجرة الجماعية تنامي في ظاهرة التطهير العرقي والديني، أو نزعات الاستعلاء العنصري سواء داخل الغرب أو خارجه.
فتعدد الهويات الجماعية ليس وليد تطور فكري، وبلوغ نضج [ ص: 128 ] إنساني، وقد يكون أحيانا من مصلحة الغرب ذاته تغذية انحرافاته وتفجراته لتيسير ترويج أسلحته وتجربة نجاعتها، أو للبرهنة على ضرورة الالتفاف حوله لإنقاذ مصير العالم من الدمار. ثم إن الفراغ الكبير في التداول الفكري لقضية الاعتراف بالهوية الجماعية للهجرة بين المؤمنين بها لا يساعد في بلورة المناهج والنظريات المستقبلية البديلة عن نظم الحداثة المعرفية والمؤسسية الغربية العاجزة عن استيعاب مثل هـذا التطور في نمط الهجرة.
«إن نمط التعايش السلمي في أزمة»
[1] ، هـكذا عبر الفيلسوف الأمريكي «فالزير» عن مخاوف المفكر الغربي تجاه مستقبل مبدأ التسامح بين الشعوب الذي تعتبره الحداثة الغربية «الإطار الأنسب لنمو التعددية الدينية والعرقية» [2] .. كما أن مجتمع ما بعد الحداثة سيكون – كما يرى الفيلسوف الإنجليزي لوك - مجتمع الاعتراف بالفرد فقط، فما هـو فردي هـو إنساني. والعالم سيكون تجمعا للغرباء، حيث لا هـوية حتى للفرد، حسب استشراف الفيلسوف وعالم السياسة الكندي « تايلور » [3] . [ ص: 129 ] لا نتصور في واقع الأمر أن هـناك أزمة في التعايش بين الشعوب ومؤسسات مجتمعاتها المدنية، فموجات مناهضة تغول أجهزة عولمة السوق من أجل كبح جماح أولوية الرأسمال الاقتصادي على الرأسمال البشري، تحمل إجماعا داخل الشعوب يتخطى جميع الفوارق المرجعية الثقافية والدينية. إن أنظمة الربح التي تقود مصير العالم اليوم هـي التي تواجه مأزقا حقيقيا في قبول تطور المجتمعات الإنسانية من مجتمعات الهوية القومية الواحدة إلى مجتمعات الهوية المتعددة الثقافات، هـوية مجتمعات الهجرة المتنامية داخل الغرب وفي أرجاء كثيرة أخرى من العالم.
إن غاية أنظمة العولمة من وراء خرق الحدود والتحجيم من المسافات والتسهيل فـي الاتصال لم تكن وحدة الشعوب والتقريب بيـن مطالبها والاتساق في طموحاتها، إنما عكس ذلك تماما. فالرأسمال البشري كان وما يزال أداة لتحقيق الربح المادي وليس غاية ولا معيارية في تصور القيمة.. وتسهيل التواصل داخل الرأسمال البشري غاياته سهولة تناقل السلع وليس القيم.
لقد شكلت المثل الإنسانية في الديموقراطية وحقوق الإنسان التي نصبها الغرب على مدخل مدينته للمهاجرين من أطراف العالم المتعددة، مجرد آليات تضمن نمطية النموذج الغربي في تحرير القيم [ ص: 130 ] والاقتصاد، بهدف فرض هـذا الأنموذج على العالم كله. فكلما ارتفع صوت معارض أو مشكك في صلاحية الأنموذج الغربي إلا وقوبل بالإقصاء باسم «لا ديموقراطية لأعداء الديموقراطية»، و «مقاومة الإرهاب»، و «معركة العالم المتحضر ضد العالم الهمجي».
وتحت هـذه اللافتات قامت «أنوار» الثورة الفرنسية على الإبادة الجماعية لرجال الدين؛ ومن وراء حجاب التسامح خطت الحملات الصليبية مآثر مجازرها في العالم الإسلامي؛ ومن تحت مظلة الغفران تمرر المشروع الصهيوني في القدس الشريف ؛ وباسم التقدم واللحاق بركب الحضارة فرضت مناهج التغريب على الوافدين من بلدان الجنوب والمتطلعين إلى دراسة الحضارة الغربية، وأحكمت قبضة التبعية على أنساق مجتمعاتهم الأصلية.
فحضارة الغرب المعاصرة غير مهيأة فكريا واستراتيجيا لاستقبال ظاهرة مجتمعات الهجرة الخارجية داخلها، فهي حضارة قامت أساسا في وجهيها الأمريكي والأوروبي على الهجرة الداخلية الغربية/الغربية، وفرضت على الهجرة من خارجها، الإسلامية والإفريقية والآسيوية، ضوابط مرجعيتها من خلال آليات قوانينها ومؤسساتها «الديموقراطية».. ولكنها الديموقراطية التي لا تكفل سوى حقوق الفرد داخل نمط المجتمع الواحد، وليس من مشمولاتها ضمان حق [ ص: 131 ] الجماعات التي تستند إلى مرجعيات مختلفة وربما متناقضة حيال مرجعية الغرب في فهم التعدد والحرية.
من ثم فإن مشكلة التعايش بين الجماعات المهاجرة داخل الغرب، وحتى خارجه -إذا اعتبرنا العالم قرية صغيرة بمنظور العولمة الغربية، يسودها نظام عالمي غربي واحد- ليست مشكلة تواصل بين الشعوب يمكن أن تعالج بوضع آليات للحوار بين الأديان أو بين الثقافات، بل هـي مشكلة عجز عن إنتاج فكر إنساني تعددي جديد يجيب عن تحديات مجتمعات ما بعد الحداثة، المتعددة الثقافات.
فالحوار ليس مجرد آلية في التواصل، بل هـو ذهنية حضارية شاملة تعبر عن وعي وحس وتقاليد مشتركة بين أطراف الحوار. ولا تكفي في إنجازه العزائم الصادقة، أو يتوقف على اتخاذ القرار الحاسم، فهو مرحلة من الوعي الجمعي بقيمة اختلاف الهويات الثقافية في كينونة الحضارة وصيرورتها، بلغها الإنسان مع أوج الحضارة الإسلامية، في حين يقف الغرب اليوم وهو يتخذ منعرجا خطيرا في تاريخ حداثته، مرتعش اليدين، مذهولا أمام سؤال موت الإنسان ونهاية التاريخ.
فلا معنى لحوار حضاري دون مضمون لهذا الحوار، ودون أطراف متوازنة داخله، وإلا تحول إلى مسرحية تكرر زمن وهم القيمة الغربية الواحدة وعلو حضارتها. ولا وجود فعلي ضمن هـذه الصورة [ ص: 132 ] لا لحالة حوار، ولا لحالة صراع بين عالم الغرب وعالم الهجرة إليه، للانفصال الكامل في طبيعة عالميهما رغم انتسابهما لوهم القرية الكونية؛ ولأن الغرب ما يزال مصرا على الهيمنة الكاملة التي تقضي على أي هـامش للاختلاف الذي هـو قاعدة الحوار أو الصراع.