المبحث الثالث : الاجتهاد المقاصدي في عصر الصحابة
الالتفات إلى المقاصد في عصر الصحابة رضي الله عنهم ، لوحظ
بصورة أوضح مما كان عليه الأمر في العصر النبوي، وذلك لطبيعة عصرهم وبيئتهم، وبسبب الحاجة الماسة إلى بيان حكم الشريعة في العديد من المشكلات والنوازل التي طرأت بسبب اتساع رقعة الدولة وتفرق العلماء وتأثرهم بما تناقلوه وعلموه من أحكام الوحي المتلو والمروي، وما أدركوه من تنوع واختلاف في العادات والأعراف والنظم السائدة في البلدان التي فتحوها واستقروا بها [1] ، وكذلك بسبب سنة التطور التي تفرضها طبيعة الحياة، فعصر الصحابة غير عصر النبوة من حيث طروء تلك النوازل والمشكلات، ومن حيث تفاوت فهو مهم وملكاتهم، ومن حيث اكتمال الوحي المبين لأحكام ذلك كله، لذلك اجتهد الصحابة في تلك الوقائع، والتجأوا إلى الرأي والنظر والمشورة .
وقد كان اجتهادهم يقوم على أسس متنوعة تجمع بين النقل والعقل، بين الدلالة اللغوية والظاهرية للنص، ومقصده وحكمته، بين استنباط الحكم مباشرة من الدليل واستخلاصه بطريق الحمل والإلحاق على نظائره وأشباهه، والتخريج على أصوله وأجناسه، مراعين في ذلك [ ص: 91 ] مقاصد الشريعة ومصالح الخلق، عاملين على إزالة التعارض بين النصوص والأدلة، مرجحين بين مراتب المصالح والمقاصد نفسها [2] فقد كان النظر إلى المقاصد الشرعية من قبلهم أمرا مهما جدا، ومستندا ضروريا لمعالجة ما أدركوه من أوضاع ومحدثات، وأحد الشروط والمعارف الاجتهادية التي لا يتم استنباط الأحكام إلا بها.. وأدلة ذلك فيما يلي:
* وراثتهم للهدي النبوي ونقله لكافة أجيال الأمة
إن اجتهاد الصحابة تعبير عن تكوينهم الديني وصلاحهم التربوي ورسوخهم في الفقه والاجتهاد، وغير ذلك من الخصائص والصفات التي ورثوها من عصر النبوة المباركة، فهم بلا شك قد عاصروا سيرته عليه الصلاة والسلام، وتتبعوا أحوالها وجزئياتها، وتشبعوا بهديها وأنوارها، وفهموا مقاصدها وغاياتها وأسرارها، وعلموا أن تبليغ ذلك وتطبيقه تكليف شرعي وواجب إسلامي ورسالة حضارية لازمة عليهم باعتبار كونهم الصفوة المختارة، التي تأهلت لتمكين إرث النبوة [ ص: 92 ] الشريفة فهما وتنزيلا، تحملا وأداء، نصا واجتهادا، اعتقادا وتعبدا، تعاملا ونظاما، قانونا ودستورا، في سائر أرجاء المعمورة، وعلى مر تاريخ الإنسانية قاطبة.
قال ابن تيمية: ( وللصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين، كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرفها أكثر المتأخرين، فإنهم شهدوا الرسول والتنزيل وعاينوا الرسول، وعرفوا من أقواله وأفعاله مما يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخرين، الذين لم يعرفوا ذلك، فطلبوا الحكم مما اعتقدوه من إجماع أو قياس) [3]
* آثارهم في المقاصد
جاء عن الصحابة آثار كثيرة تتعلق بمراعاة المقاصد الشرعية على نحو التيسير والتخفيف والرفق، وتجنب التشديد والمغالات والتعمق والتكلف والمبالغة في التعبد والتورع [4] ، ومن تلك الآثار:
- قولة الإمام أحمد عن الصحابة: ( إنه ما من مسألة يسأل عنها إلا وقد تكلم الصحابة فيها أو في نظيرها، الصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص كما هو مشهور عنهم، وكانوا يجتهدون [ ص: 93 ] رأيهم، ويتكلمون بالرأي، ويحتجون بالقياس أيضا ) [5] . ويعتبر الإمام أحمد بأن ذلك القياس بنوعيه من قبيل فهم المقاصد فيقول: ( وهما من باب فهم مراد الشارع ) [6] قولة ابن مسعود رضي الله عنه : (إياكم والتنطع، إياكم والتعمق، وعليكم بالعتيق ) [7] والتنطع هو التعمق في القول والفعل، والتعمق هو المبالغة والتشدد .
قولة عمر رضي الله عنه : ( نهينا عن التكلف ) [8] قولة عمرو بن إسحاق : ( لمن أدركت من أصحاب رسول الله أكثر ممن سبقني منهم، فما رأيت قوما أيسر سيرة ولا أقل تشديدا منهم ) [9] - قال ابن عمر: ( لا تسأل عما لم يكن، فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن ) [10] [ ص: 94 ]
* الوقائع التي اجتهدوا فيها
تجلى العمل بالمقاصد والمصالح زمن الصحابة في كثير من الحوادث المستجدة في زمانهم، وتلك الحوادث الكثيرة تناولها علماء الأصول وتاريخ الفقه ومدونو السيرة والتراجم بالعرض والتعليق والمناقشة، وهي مبسوطة في مظانها ومصادرها، وليس على الناظر إلا معرفتها حتى يتبين له اهتمام الصحابة المتزايد بالنظر المصلحي الأصيل، وبتأطير مستجدات زمانهم الكثيرة بكبرى اليقينيات الشرعية والمقاصـد الشرعية.
والمقام الذي نحن بصدده لا يقتضي منا سوى إيراد بعض تلك الحوادث على سبيل الإجمال والعموم، دون خوض في التفصيل والتفريع والتدليل، إبعادا للتكرار الممل ومراعاة لما حسمه المتقدمون وبينوه .
ومن تلك الحوادث [11] :
- اختيار أبي بكر رضي الله عنه خليفة للمسلمين قياسا على إمامته في الصلاة، والمقصد حفظ نظام الدولة واستمرار رسالتها الدعوية والحضارية والإصلاحية. [ ص: 95 ]
- جمع القرآن في عهد أبي بكر، وكتابته في المصحف الإمام في عهد عثمان [12] ، والمقصد هو حفظ دستور الدولة الناشئة، والمنبع الأول لهدي العالم وصلاحه، والمصدر الأساس للتشريع والنظام والقانون.
- تضمين الصناع، والمقصد هو حفظ حقوق الناس وسد حاجتهم من الصناعة [13] ، وقد قال الإمام علي رضي الله عنه : ( لا يصلح للناس إلا ذلك ) [14] - إمضاء الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلاقا ثلاثا، والمقصد هو زجر الرجال عن الاستخفاف بكثرة إيقاع الطلاق الثلاث دون أن يمضي ثلاثا، فرأى الصحابة مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع [15] - عدم توزيع الأراضي المفتوحة على المقاتلين، والمقصد هو تقوية بيت المال، والقدرة على الإنفاق وسد حاجات الدولة.
- زيادة الاجتماع في المساجد لقيام رمضان، والمقصد هو المحافظة على الجماعة وفوائدها ومصالحها المتعلقة بزيادة الأجر وتحقيق الوحدة وتعليم الناس وتيسير العبادة بأدائها جماعة، وغير ذلك [16] [ ص: 96 ]
- أمر عثمان رضي الله عنه التقاط ضالة الإبل والتعريف بها وبيعها حتى إذا جاء صاحبها أعطاه ثمنها، ولم يكن هذا موجودا في العصر النبوي لقوة الوازع الديني، والمقصد هو حفظ حق الغير وسد ذريعة التهاون بممتلكات الغير [17] - منع النساء من شهود الجماعة عند خشية الفتنة، والمقصد هو حفظ الأعراض وسد ذريعة الفساد وتقديم مصلحة كل ذلك على مصلحة إدراك الجماعة [18] -وصية عمر رضي الله عنه أمراءه بعدم إقامة الحد في الغزو، والمقصد هو درء مظنة لحوق المسلم المحدود بالعدو، وتقديم ذلك على مصلحة تطبيق الحد نفسه، أو أن تطبيق الحد أشد ضررا من تأخير إقامة الحد عليه [19] - عدم إقامة حد السرقة عام المجاعة، وذلك لما رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عدم استيفاء الشروط الضرورية الباعثة على التطبيق، والتي منها شبهة المجاعة الملجئة على أخذ حق الغير بدون إذن منه [ ص: 97 ] للضرورة [20] ، والمقصد هو الرفق والتخفيف بمن اضطر إلى السرقة دون اختيار منه ومراعة ظروف تطبيق الحكم كي يحقق أغراضه وفوائده، غير أن هذا لا يهمل تعزيره وتأديبه.
- قتل الجماعة بالواحد، والمقصد هو حفظ حياة النفوس وقمع الجناة وزجر الناس كي لا يفكروا في القتل، وسد ذريعة الفرار من القصاص بشبهة الاشتراك في القتل، إذ لو اقتصر في تنفيذ القصاص على المنفرد بالقتل لاتخذ الناس الاشتراك في القتل ذريعة لذلك [21] ، ولذلك قال عمر رضي الله عنه : « لو تمالا عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا » [22] - عدم إعطاء المؤلفة قلوبهم سهمهم من الزكاة لانتفاء علة ذلك وحكمته، فقد كان ذلك السهم يعطى بغرض تقوية الإسلام باستعطافهم بالمال وتحييدهم عن المعادين، ولما قويت شوكة الإسلام وثبتت أركانه وانتصرت جنوده وأنصاره لم تدع الحاجة إلى استعطافهم وتأليف قلوبهم، فعدم الإعطاء ليس تعطيلا للنص كما يدعي البعض، وإنما هو تطبيق له بعمق ونظر، واجتهاد دقيق في مدلولاته وصوره، ووقوف على علته ومقصده وجودا وعدما [23] [ ص: 98 ]
- جلد شارب الخمر ثمانين جلدة، والمقصد هو ضمان تأديبه، حيث كان شراب الخمور لا يرتدعون بأقل من ذلك، ومن مقاصد ذلك أيضا حفظ العقول من الضياع والهلاك، وكذلك حفظ المال والأعراض وغير ذلك مما يترتب على شرب الخمر من مفاسد ومهالك .
- إراقة اللبن المغشوش بالماء تأديبا للبائع، كي لا يأخذ حق الغير بلا وجه شرعي، وضمانا لمصلحة المشتري وحقه.
- الفصل بين الأقارب في الجوار، والمقصد هو حفظ صلة الرحم، ونفي التنازع والافتتان الواقعين بسبب الاقتراب والاحتكاك.
- منع الفقهاء من مغادرة المدينة في عهد عمر رضي الله عنه ، والمقصد هو توسيع دائرة الشورى واتخاذ الآراء والمواقف التي فيها صلاح الدولة وتوثيق الأدلة واكتمال صحة الاجتهاد.
- جواز قطع الصلاة لإدراك الدابة الشاردة، والمقصد هو حفظ المال من الضياع، ودفع مشقة العودة إلى الأهل على غير الدابة.
- ورود السباع على المياه لا يغير حكم طهارة تلك المياه، والمقصد هو دفع المشقة ورفع الحرج بالعفو عما لا يمكن الاحتراز منه.
- الترخيص في المتعة عام خيبر، ثم النهي عنها، ثم ترخيصها عام أوطاس، ثم النهي عنها، علله ابن عباس بأنه للضرورة [24] [ ص: 99 ]
- تدوين الدواوين ووضع السجلات، واتخاذ السجون، وضرب العملة، ومراقبة الأسعار والأسواق، وفصل القضاء عن الإمارة، وضبط التاريخ الهجري، وغير ذلك مما له صلة بتنظيم الإدارة وبعث المؤسسات وتحديد المواقيت والآجال ووضع أدوات التعامل الاقتصادي، ومما يسهل حركة المجتمع ويضمن حقوق أفراده ويحقق أهداف الدولة ومصالحها في الداخل والخارج.
- الحكم بطلاق المفقود عنها زوجها بعد أربع سنين ولم تعلم حياته أو موته، والمقصد هو نفي الضرر عن الزوجة بسبب الغربة وطول الانتظار.
- تعليل القيام للجنازة بتعظيم الملائكة وهول الموت [25]
* إجماعهم على ترك الحيل
أجمع الصحابة على ترك الحيل وتحريمها، واعتبار ذلك منافيا للمقاصد والمصالح، وموصلا إلى معارضة الأحكام والقصود والنيات المعتبرة، ومن شواهد ذلك:
- فتوى عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم بتوريث المبتوتة في مرض الموت لمعاملة الزوج بنقيض مقصوده، والمقصد هو حفظ حقوق [ ص: 100 ] الغير وعدم تفويتها إلا بوجه شرعي، وليس عمل الزوج إلا حيلة جائزة في الظاهر، للتخلص من الزوجة وحرمانها من حق الإرث [26] - فتوى عمر رضي الله عنه بعدم طلاق المرأة التي تحايلت على زوجها بأن قالت له: سمني خلية طالق، فلما سماها كذلك ادعت أنها مطلقة منه [27]