الأصل الخامس
لا يحكم بالهلاك جزما على أحد خالف في الاعتقاد أو غيره، ولا على طائفة معينة بأنها من الفرق الضالة الثنتين والسبعين، إلا إذا كانت المخالفة غليظة
لا ريب أن نجاة الأفـراد والجماعـات تكـون في السيـر على مثـل مـا سـار عليـه رسـول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابـه رضي الله عنهم ، لقـول رسـول الله صلى الله عليه وسلم : ( تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة: اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) [1] ، هـذه هـي الفرقة الناجية.. فما مصير من خالف اعتقادها؟ وهل يعد من الاثنتين والسبعين فرقـة التي أشـار إليها الحديث؟
يبين ابن تيمية أنه (ليس كل من خالف في شيء من هـذا الاعتقاد يجب أن يكون هـالكا، فإن المنازع قد يكون مجتهدا مخطئا يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، [ ص: 87 ] وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته.. وإذا كانت ألفاظ الوعيـد المتناولـة له، لا يجـب أن يدخـل فيهـا المتـأول والقـانـت وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك، فهذا أولى، بل موجب هـذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هـذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجيا، وقد لا يكون ناجيا، كما يقال: من صمت نجا) [2] ، فليس كل من تكلم هـلك.
كما يوضح ابن تيمية أنه لا يحكم على طائفة معينة بأنها من الفرق الضالة الاثنتين والسبعين التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث، وأنه لا سبيل إلى الجزم بأنها واحدة منها؛ لأن (الجزم بأن هـذه الفرقة الموصوفة هـي إحدى الثنتين والسبعين لا بد له من دليل، فإن الله حرم القول بلا علم عموما، وحرم القول عليه بلا علم خصوصا) [3] ، قال تعالى: ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ) (الأعراف: 33) .
وقـال تعـالى: ( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين * إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) (البقرة: 168-169) . [ ص: 88 ] وقـال تعالى: ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) (الإسراء: 36) .
نعم ورد تعيين بعض الفرق عن إمامين من أهل السنة هـمـا: يوسف بن أسباط [4] ، وعبد الله بن المبارك [5] ، أنهما قالا: أصول البدع أربعة: الروافض والخوارج والقدرية والمرجئة ، فقيل لابن المبارك : والجهمية ، فأجاب: بأن أولئك ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية.. وهذا الذي قاله، اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، قالوا: إن الجهمية كفار، فلا يدخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام وهم الزنادقة [6] .
وروى المسيب بن واضح [7] أنه قال: (أتيت يوسف بن أسباط ، فقلت: يا أبا محمد! إنك بقية ممن مضى من العلماء، وأنت حجة [ ص: 89 ] على من لقيت، وأنت إمام سنة، ولم آتك أسمع منك الأحاديث، ولكن أتيتك أسألك عن تفسيرها، وقد جاء هـذا الحديث: ( إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن هـذه الأمة ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة ) [8] ، فما هـذه الفرق حتى نجتنبهم؟ فقال: أصلها أربعة ... ) [9] .
فهذه الطوائف اشتهرت أقوالها المخالفة مخالفة غليظة للكتاب والسنة، وافترقت عن أهل السنة والجماعة، افتراقا بينا في الأصول من الدين مما ثبت بالضرورة، فساغ لهذا الإمام الحكم عليها بأنها من الفرق الضالة الاثنتين والسبعين [10] . [ ص: 90 ]