17 - تلك هـي مجمل مزاياه القيادية، فإذا طبقنا أعماله العسكريه في حروبه وفق مبادئ الحرب، نجد أن عمرا، طبق مبادئ الحرب كافة بكفاية واقتدار في معاركه كلها، مما كان له أثر حاسم في انتصاراته.
وأول مبادئ الحرب التي طبقها عمرو في حروبه، هـو مبدأ: اختيار المقصد وإدامته
[1] [ ص: 52 ]
فقد كان
عمرو ماهرا للغاية في تطبيق هـذا المبدأ، بل يبدو أنه كان يفكر بمقصده من معاركه مسبقا، وكأن هـذا المقصد أمر مدبر لا دخل للارتجال أو للتفكير الفوري فيه، إلا في المعارك التعبوية الصغرى. أما في المعارك الكبرى -وبخاصة السوقية منها- فكان مقصد عمرو واضحا جليا، أعده قبل مدة من الزمن، وعمل على إعداده، وبذل قصارى جهده لإخراجه من حيز التفكير النظري إلى ميدان التطبيق العملي.
كان مقصد النبي صلى الله عليه وسلم من سرية ذات السلاسل ، التي تولى قيادتها عمرو: صد جمع
قضاعة ، الذين يريدون أن يهاجموا أطراف
المدينة المنورة .
ولما قرب عمرو من القوم، بلغه أن لهم جمعا غفيرا، فاستمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه أيقن أنه لن يستطيع تحقيق مقصد النبي صلى الله عليه وسلم من هـذه السرية بقوته الراهنة.
وجاءه الرد بقيادة
أبي عبيدة بن الجراح ، فأصر عمرو على توحيد القيادة، لتحقيق مقصد النبي صلى الله عليه وسلم من هـذه السرية، لأهمية توحيد القيادة، وضرورة وجود قائد واحد، يدير معركة واحدة، على رأس قوة واحدة.
وعلى الرغم من حرص عمرو الشديد على الإمارة، إلا أن التفاتته البارعة إلى حصر القيادة بيده فقط، كانت ذات أهمية بالغة، لتحقيق المقصد المرسوم، لأن وجود قائدين عل رأس قوة واحدة، يؤدي إلى الارتباك، والبلبلة، وضياع المسئولية، وتفرق الشمل، وبعثرة الجهود،
[ ص: 53 ] فلا يتحقق المقصد المطلوب كما ينبغي.
وكان مقصد
أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، من إرسال جيوشه وقادته إلى
بلاد الشام ، هـو فتح هـذه البلاد، وضمها إلى الدولة الإسلامية الفتية، وذلك بتطهير بلاد الشام من
الروم ، لحماية الحدود الشمالية الغربية لبلاد المسلمين.
ولم يكن مقصد أبي بكر الصديق قابلا للتحقيق، لو بقيت الجيوش الإسلامية متفرقة، فأشار عمرو على قادة المسلمين في أرض الشام بالاجتماع في
اليرموك ، وهو الذي أشار بتوحيد القيادة، فاجتمعت الجيوش الإسلامية، في اليرموك بإشارة
عمرو ، وتوحدت القيادة في تلك المعركة الحاسمة، وبذلك حشد الجيوش الإسلامية بقيادة واحدة في موضع مناسب اختاره عمرو، " فقال عمرو للمسلمين: أبشروا، حصرت والله الروم، وقل ما جاء محصور بخير. " وبذلك حقق عمرو نصف النصر قبل نشوب القتال، لأنه جر الروم إلى منطقة قتالية بصالح المسلمين، لا بصالح الروم، وحشد في تلك المنطقة جيوش المسلمين كافة، وجعلها تعمل بقيادة موحدة.
ولما نشب القتال، أحرز المسلمون نصرا عظيما على الروم، فتحقق مقصد أبي بكر الصديق، ومقصد قادة المسلمين الميدانيين.
وبدون شك، كان مقصد عمرو في فتوح الشام واضحا جدا،
[ ص: 54 ] وكان يديم مقصده بطريقته الخاصة في القيادة: يقاتل بسيفه، ويقاتل بعقله، ويحاول أن يحصل على أكبر الأرباح بأقل الخسائر.
أما مقصده في فتوح مصر وليبيا ، فقد كان مقصدا صريحا، فما ترك فرصة التقى
وعمر بن الخطاب بها، إلا فاتحه بفتح مصر، وأغراه بفتحها، حتى استطاع أن يحصل على موافقة عمر، فانطلق قدما لوضع مقصده في الفتح موضع التنفيذ.
وما يقال عن فتح مصر، يقال عن فتح ليبيا أيضا، فما زال بعمر حتى وافق على فتحها.
وكان مقصد عمرو أن يفتح
إفريقية (تونس) بعد فتح ليبيا، ولكن عمر رفض ما عرضه عليه
عمرو من الإقدام على فتحها، فلما توفيك عمر، وخلفه
عثمان ، حقق عمرو ما كان يصبو إليه من فتح إفريقية، فبدأ بفتحها، ولكن عزله عن مصر، حال بينه، وبين إكمال ما يريد.
لقد كان عمرو ماهرا في اختيار المقصد وإدامته.
18 - وكان يطبق مبدأ: التعرض
[2] ، بل كان قائدا تعرضيا، لم يخض معركة دفاعية في حياته العسكرية الطويلة، في سنواتها العريضة، بنتائجها العميقة، بأثرها وتأثيرها.
[ ص: 55 ]
ومن النادر أن نجد قائدا، لم يخض في حياته العسكرية كلها معركة دفاعية واحدة، وكانت كل معاركه تعرضية.
وكان يطبق مبدأ المباغتة، والمباغتة أقوى مبادئ الحرب، وأبعدها أثرا في الحرب، وتأثيرها المعنوي عظيم جدا، وتأثيرها من الناحية النفسية يكمن فيما تحدثه من شلل في تفكير القائد الخصم، وفي قواته أيضا.
لقد كان
عمرو يسير الليل، ويكمن النهار، ليباغت عدوه، كما فعل في سرية ذات السلاسل، وغيرها من معاركه.
وكان لا يأذن لأصحابه بإيقاد النار ليلا في الشتاء، لكي لا يطلع عدوهم على قلتهم، فيستهين بهم، ويهاجمهم ليوقع فيهم الخسائر الفادحة، كما فعل في سرية ذات السلاسل ، وفي غيرها من معاركه أيضا، ليوهم العدو أن المسلمين في كثرة، فيؤثر في معنوياتهم، ويباغتهم بالهجوم عليهم، ويضطرهم على الفرار أو الاستسلام.
وكان عمرو يفرق أصحابه، ليرى العدو أنهم أكثر مما هـم عددا وعددا، كما فعل في معركة حصار حصن بابليون الحاسمة، ليزعزع معنويات العدو
[3] بإيهامه أن المسلمين في عدد ضخم من الرجال.
وكان يقوم باستطلاع شخصي لمقرات قادة العدو، ليطلع على نقاط الضعف فيهم، وفي قواتهم ومواضعهم، ويباغتهم من حيث لا يحتسبون.
[ ص: 56 ]
ويطلع العدو على استقامة المسلمين، وعدلهم، وتواضعهم، ليقول قائلهم: رأينا قوما الموت أحب إلى أحده من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم رغبة ولا نهمة، إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأجيرهم كواحد منهم، وما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويتخشعون في صلاتهم. فقال عند ذلك المقوقس: والذي يحلف به، لو أن هـؤلاء استقبلوا الجبال، لأزالوها، وما يقوى على قتال هـؤلاء أحد
[4] ، فيستسلم العدو للمسلمين، كما فعل القبط، ويكونون عونا لهم على عدوهم المشترك: الروم.
وقد استطاع عمرو أن يزعزع معنويات عدوه في معارك كثيرة، بالمفاوضات الشخصية، أو بالمفاوضين الآخرين من المسلمين، فربح نصف المعركة قبل أن يخوضها، ثم ضرب ضربته في المكان المناسب، والزمان المناسب، فانهارت معنويات عدوه، وفر من استطاع الفرار، واستسلم الباقون للمسلمين.
وفي الوقت الذي استطاع عمرو أن يباغت عدوه في كل معركة خاضها، بالتأثير في المعنويات المعادية بخاصة، فإنه حرم عدوه من مباغتته في أية معركة خاضها، فلم يسجل التاريخ العسكري لعمرو
[ ص: 57 ] عليه أن العدو باغت رجاله، لأنه كان حذرا غاية الحذر، متيقظا غاية اليقظة، يحمي قواتـه بالمقدمـات والمؤخـرات والساقـات والمجنبـات، ولا يترك ثغرة يمكن أن يتسرب منها العدو لضرب قواته بصورة مباغتة.
والمباغتة تكون إما بالمكان، بالهجوم من مكان لا يتوقعه العدو، أو تكون بالزمان، بالهجوم في زمان لا يتوقعه العدو، أو بالأسلوب، بالهجوم في أسلوب قتالي لا يعرفه العدو، أو لا يتوقعه.
وقد طبق عمرو هـذه الأساليب الثلاثة في المباغتة في حروبه.
فقد طبق المباغتة بالمكان في فتح طرابلس ، بتسرب المسلمين إلى داخل المدينة، من مكان لا يتوقعه العدو، كما ذكرنا ذلك.
وطبق المباغتة بالزمان في فتح مدينة صبراته الليبية ، فقد هـاجمها المسلمون في زمان لا يتوقعه أهلها، فلما ظفر بمدينة
طرابلس جرد خيلا كثيفة من ليلته، وأمرهم بسرعة السير، فصبحت خيله المدينة، وقد غفل أهلها، وفتحوا أبوابها لتسرح ماشيتهم، فدخلها المسلمون واحتوى عمرو ما فيها
[5] ، وقد ذكرنا ذلك في الحديث عن فتح ليبيا .
وطبق المباغتة بالأسلوب، بهجوم الفرسان السريع الخاطف، واندفاعهم بالعمق، والتغلغل بعيدا في صفوف العدو، فمن المعروف أن الخيول العربية أسرع من خيول الروم، وأن الفارس العربي أخف
[ ص: 58 ] حركة من الفارس الرومي، لخفة تجهيزاته وأسلحته، وأمهر في فروسيته، وأقدر على استعمال السيف والرمح، يضاف إلى ذلك، حماسته الدينية في الجهاد، وشدة ضبطه وطاعته، والتزامه بالنظام. وهذه الحماسة، والضبط، والطاعة، والنظام، من أثر الإسلام على المجاهدين العرب، إذ لم يكن العرب كذلك قبل الإسلام بلا مراء.
ومن المعلوم أن المباغتة أهم مبادئ الحرب على الإطلاق.
17 - تلك هـي مجمل مزاياه القيادية، فإذا طبقنا أعماله العسكريه في حروبه وفق مبادئ الحرب، نجد أن عمرًا، طبق مبادئ الحرب كافة بكفاية واقتدار في معاركه كلها، مما كان له أثر حاسم في انتصاراته.
وأول مبادئ الحرب التي طبقها عمرو في حروبه، هـو مبدأ: اختيار المقصد وإدامته
[1] [ ص: 52 ]
فقد كان
عمرو ماهرًا للغاية في تطبيق هـذا المبدأ، بل يبدو أنه كان يفكّر بمقصده من معاركه مسبّقًا، وكأن هـذا المقصد أمرٌ مدبّر لا دخل للارتجال أو للتفكير الفوري فيه، إلا في المعارك التعبوّية الصغرى. أما في المعارك الكبرى -وبخاصة السّوقِيّة منها- فكان مقصد عمرو واضحًا جليًا، أعده قبل مدة من الزمن، وعمل على إعداده، وبذل قصارى جهده لإخراجه من حيز التفكير النظري إلى ميدان التطبيق العملي.
كان مقصد النبي صلى الله عليه وسلم من سرية ذات السلاسل ، التي تولّى قيادتها عمرو: صدّ جمع
قُضاعة ، الذين يريدون أن يهاجموا أطراف
المدينة المنورة .
ولما قرب عمرو من القوم، بلغه أن لهم جمعًا غفيرًا، فاستمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه أيقن أنه لن يستطيع تحقيق مقصد النبي صلى الله عليه وسلم من هـذه السرية بقوته الراهنة.
وجاءه الرد بقيادة
أبي عُبيدة بن الجراح ، فأصرّ عمرو على توحيد القيادة، لتحقيق مقصد النبي صلى الله عليه وسلم من هـذه السرية، لأهمية توحيد القيادة، وضرورة وجود قائد واحد، يدير معركة واحدة، على رأس قوة واحدة.
وعلى الرغم من حرص عمرو الشديد على الإمارة، إلا أن التفاتته البارعة إلى حصر القيادة بيده فقط، كانت ذات أهمية بالغة، لتحقيق المقصد المرسوم، لأن وجود قائديْن عل رأس قوة واحدة، يؤدي إلى الارتباك، والبلبلة، وضياع المسئولية، وتفرّق الشمل، وبعثرة الجهود،
[ ص: 53 ] فلا يتحقّق المقصد المطلوب كما ينبغي.
وكان مقصد
أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، من إرسال جيوشه وقادته إلى
بلاد الشام ، هـو فتح هـذه البلاد، وضمّها إلى الدولة الإسلامية الفتيّة، وذلك بتطهير بلاد الشام من
الروم ، لحماية الحدود الشمالية الغربية لبلاد المسلمين.
ولم يكن مقصد أبي بكر الصديق قابلا للتحقيق، لو بقيت الجيوش الإسلامية متفرقة، فأشار عمرو على قادة المسلمين في أرض الشام بالاجتماع في
اليرموك ، وهو الذي أشار بتوحيد القيادة، فاجتمعت الجيوش الإسلامية، في اليرموك بإشارة
عمرو ، وتوحّدت القيادة في تلك المعركة الحاسمة، وبذلك حشد الجيوش الإسلامية بقيادة واحدة في موضع مناسب اختاره عمرو، " فقال عمرو للمسلمين: أبشروا، حُصرت والله الروم، وقلّ ما جاء محصور بخير. " وبذلك حقّق عمرو نصف النصر قبل نشوب القتال، لأنه جرّ الروم إلى منطقة قتالية بصالح المسلمين، لا بصالح الروم، وحشد في تلك المنطقة جيوش المسلمين كافة، وجعلها تعمل بقيادة موحدة.
ولما نشب القتال، أحرز المسلمون نصرًا عظيمًا على الروم، فتحقق مقصد أبي بكر الصديق، ومقصد قادة المسلمين الميدانيين.
وبدون شك، كان مقصد عمرو في فتوح الشام واضحًا جدًا،
[ ص: 54 ] وكان يديم مقصده بطريقته الخاصة في القيادة: يقاتل بسيفه، ويقاتل بعقله، ويحاول أن يحصل على أكبر الأرباح بأقل الخسائر.
أما مقصده في فتوح مصر وليبيا ، فقد كان مقصدًا صريحًا، فما ترك فرصة التقى
وعمر بن الخطاب بها، إلا فاتحه بفتح مصر، وأغراه بفتحها، حتى استطاع أن يحصل على موافقة عمر، فانطلق قُدمًا لوضع مقصده في الفتح موضع التنفيذ.
وما يقال عن فتح مصر، يقال عن فتح ليبيا أيضًا، فما زال بعمر حتى وافق على فتحها.
وكان مقصد عمرو أن يفتح
إفريقية (تُونس) بعد فتح ليبيا، ولكن عمر رفض ما عرضه عليه
عمرو من الإقدام على فتحها، فلما تُوفيك عمر، وخلفه
عثمان ، حقّق عمرو ما كان يصبو إليه من فتح إفريقية، فبدأ بفتحها، ولكن عزله عن مصر، حال بينه، وبين إكمال ما يريد.
لقد كان عمرو ماهرًا في اختيار المقصد وإدامته.
18 - وكان يطبّق مبدأ: التَعرُّض
[2] ، بل كان قائدًا تعرضيًا، لم يخض معركة دفاعية في حياته العسكرية الطويلة، في سنواتها العريضة، بنتائجها العميقة، بأثرها وتأثيرها.
[ ص: 55 ]
ومن النادر أن نجد قائدًا، لم يخض في حياته العسكرية كلها معركة دفاعية واحدة، وكانت كل معاركه تعرّضية.
وكان يطبّق مبدأ المباغتة، والمباغتة أقوى مبادئ الحرب، وأبعدها أثرًا في الحرب، وتأثيرها المعنوي عظيم جدًا، وتأثيرها من الناحية النفسية يكمن فيما تحدثه من شلل في تفكير القائد الخصم، وفي قواته أيضًا.
لقد كان
عمرو يسير الليل، ويكمن النهار، ليباغت عدوه، كما فعل في سرية ذات السلاسل، وغيرها من معاركه.
وكان لا يأذن لأصحابه بإيقاد النار ليلا في الشتاء، لكي لا يطّلع عدوهم على قلتهم، فيستهين بهم، ويهاجمهم ليوقع فيهم الخسائر الفادحة، كما فعل في سرية ذات السلاسل ، وفي غيرها من معاركه أيضًا، ليوهم العدو أن المسلمين في كثرة، فيؤثر في معنوياتهم، ويباغتهم بالهجوم عليهم، ويضطرهم على الفرار أو الاستسلام.
وكان عمرو يفرّق أصحابه، ليرى العدو أنهم أكثر مما هـم عَدَدًا وعُددًا، كما فعل في معركة حصار حصن بابليون الحاسمة، ليزعزع معنويات العدو
[3] بإيهامه أن المسلمين في عدد ضخم من الرجال.
وكان يقوم باستطلاع شخصي لمقرّات قادة العدو، ليطّلع على نقاط الضعف فيهم، وفي قواتهم ومواضعهم، ويباغتهم من حيث لا يحتسبون.
[ ص: 56 ]
ويُطلع العدو على استقامة المسلمين، وعدلهم، وتواضعهم، ليقول قائلهم: رَأَيْنَا قَوْمًا الموتُ أَحَبُّ إلى أَحَدِهِْ مِنَ الحياةِ، والتَّوَاضُعُ أَحَبُّ إليهم مِنَ الرِّفْعَةِ، ليسَ لأَحَدِهِم رَغْبَةٌ ولا نَهْمَةٌ، إنما جُلُوسُهُمْ على التُّرَابِ، وأَكْلُهُمْ على رُكَبِهِمْ، وأَجِيرُهُمْ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وما يُعْرَفُ رَفِيعُهم مِن وَضِيعِهِم، ولا السيدُ منهم من العَبْدِ، وإذا حَضَرَتِ الصلاةُ لم يَتَخَلَّفْ عنها منهم أحد، يَغْسِلُون أطرافَهُم بالماء، ويَتَخَشَّعُون في صَلاتِهِم. فقال عند ذلك المقوقس: والذي يُحْلَفُ به، لو أن هـؤلاءِ استقبلوا الجبالَ، لأزالوها، وما يَقْوَى على قتالِ هـؤلاءِ أحد
[4] ، فيستسلم العدو للمسلمين، كما فعل القِبط، ويكونون عونًا لهم على عدوّهم المشترك: الروم.
وقد استطاع عمرو أن يزعزع معنويات عدوه في معارك كثيرة، بالمفاوضات الشخصية، أو بالمفاوضين الآخرين من المسلمين، فربح نصفَ المعركة قبل أن يخوضها، ثم ضرب ضربته في المكان المناسب، والزمان المناسب، فانهارت معنويات عدوه، وفرّ من استطاع الفرار، واستسلم الباقون للمسلمين.
وفي الوقت الذي استطاع عمرو أن يباغت عدوه في كل معركة خاضها، بالتأثير في المعنويات المعادية بخاصة، فإنه حَرَم عدوه من مباغتته في أية معركة خاضها، فلم يسجّل التاريخ العسكري لعمرو
[ ص: 57 ] عليه أن العدو باغت رجاله، لأنه كان حذرًا غاية الحذر، متيقظًا غاية اليقظة، يحمي قواتـه بالمقدّمـات والمؤخـرات والساقـات والمجنبـات، ولا يترك ثغرة يمكن أن يتسرّب منها العدو لضرب قواته بصورة مباغتة.
والمباغتة تكون إما بالمكان، بالهجوم من مكان لا يتوقعه العدو، أو تكون بالزمان، بالهجوم في زمان لا يتوقعه العدو، أو بالأسلوب، بالهجوم في أسلوب قتالي لا يعرفه العدو، أو لا يتوقعه.
وقد طبّق عمرو هـذه الأساليب الثلاثة في المباغتة في حروبه.
فقد طبق المباغتة بالمكان في فتح طرابلس ، بتسرب المسلمين إلى داخل المدينة، من مكان لا يتوقعه العدو، كما ذكرنا ذلك.
وطبّق المباغتة بالزمان في فتح مدينة صبراته الليبية ، فقد هـاجمها المسلمون في زمان لا يتوقعه أهلها، فلما ظفر بمدينة
طرابلس جرّد خيلا كثيفة من ليلته، وأمرهم بسرعة السير، فصبّحت خيله المدينة، وقد غفل أهلها، وفتحوا أبوابها لتَسْرح ماشيتهم، فدخلها المسلمون واحتوى عمرو ما فيها
[5] ، وقد ذكرنا ذلك في الحديث عن فتح ليبيا .
وطبّق المباغتة بالأسلوب، بهجوم الفرسان السريع الخاطف، واندفاعهم بالعمق، والتغلغل بعيدًا في صفوف العدو، فمن المعروف أن الخيول العربية أسرع من خيول الروم، وأن الفارس العربي أخف
[ ص: 58 ] حركة من الفارس الرومي، لخفّة تجهيزاته وأسلحته، وأمهر في فروسيته، وأقدر على استعمال السيف والرمح، يضاف إلى ذلك، حماسته الدينية في الجهاد، وشدة ضبطه وطاعته، والتزامه بالنظام. وهذه الحماسة، والضبط، والطاعة، والنظام، من أثر الإسلام على المجاهدين العرب، إذ لم يكن العرب كذلك قبل الإسلام بلا مراء.
ومن المعلوم أن المباغتة أهم مبادئ الحرب على الإطلاق.