6- الداهيـة
كان
الإمام الشعبي رحمه الله يقول: دهاة العرب أربعة:
معاوية بن أبي سفيان ،
وعمرو بن العاص ،
والمغيرة بن شعبة [1] ،
وزياد [2] ؛ فأما معاوية فللحلم والأناة، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللكبير والصغير)
[3] .
وقالوا: (الدهاة أربعة: معاوية للروية، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة للمعضلات، وزياد لكل صغيرة وكبيرة)
[4] .
وكان من دهائه، دخوله على
الأرطبون ، وتخلصه منه، بعد أن انكشف أمره للأرطبون، فلما سمع
عمر بن الخطاب بخديعة عمرو للأرطبون، قال: (لله در عمرو) ، كما قال عنه الأرطبون: (هذا أدهى الخلق)
[5] .
ولما فتح عمرو
قيسارية من
أرض فلسطين ، سار حتى نزل
غزة ، فبعث إليه علجها: (أن ابعث إلي رجلا أكلمه) ، وفكر عمرو، فقال: (ما لهذا أحد غيري) .
[ ص: 166 ]
وخرج
عمرو ، حتى دخل على العلج، فكلمه، فسمع كلاما لم يسمع قط مثله، فقال العلج: (حدثني، هـل في أصحابك أحد مثلك؟! قال: (لا تسأل عن هـذا، إني هـين عليهم، إذ بعثوا بي إليك، وعرضوني لما عرضوني له، ولا يدرون ما تصنع بي!) فأمر له بجائزة وكسوة، وبعث إلى البواب: (إذا مر بك، فاضرب عنقه، وخذ ما معه) .
وخرج عمرو من عنده، فمر برجل من نصارى
غسان ، فعرفه، فقال: (يا عمرو! قد أحسنت الدخول، فأحسن الخروج) .. ففطن عمرو لما أراده، فرجع، وقال له الملك: (ما ردك إلينا) فقال: (نظرت فيما أعطيتني، فلم أجد ذلك يسع بني عمي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم، تعطيهم هـذه العطية، فيكون معروفك عند عشرة خيرا من أن يكون عند واحد) ، فقال: (صدقت! اعجل بهم) ، وبعث إلى البواب: (أن خل سبيله) ، وخرج عمرو، وهو يلتفت، حتى إذا أمـن، قـال: (لا عدت لمثلها أبدا) .. فلما صالحه عمرو، ودخل عليه العلج، قال له: (أنت هـو!!) قال: (نعم، على ما كان من غدرك)
[6] .
وكرر عمرو هـذه العملية مرة ثالثة في أيام فتح مصر ، فحين استعصى عليه فتح
حصن بابليون ، أقدم على دخول الحصن، ودخل على صاحبه، فتناظرا في شيء مما هـم فيه، فقال عمرو: (أخرج أستشير أصحابي) .
[ ص: 167 ]
وكان صاحب الحصن أوصى الذي على الباب، إذا مر به عمرو، أن يلقي عليه صخرة فيقتله، فمر عمرو وهو يريد الخروج برجل من العرب، فقال له: (قد دخلت، فانظر كيف تخرج) .
ورجع
عمرو إلى صاحب الحصن، فقال له: (إني أريد أن آتيك بنفر من أصحابي، حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت) ، فقال العلج في نفسه: (قتل جماعة أحب إلي من قتل واحد) ، فأرسل إلى الذي كان أمره بما أمره من قتل عمرو: (ألا تعرض له) ، رجاء أن يأتيه بأصحابه فيقتلهم.
وخرج عمرو
[7] ، وتخلص من موت أكيد بدهائه.
ومهما قيل في إثبات هـذه المحاولات الثلاث، أو نفيها، فإنها تدل على ما عرف عنه من دهاء، إذ لم تنسب مثل هـذه الحالات لغيره من القادة والولاة.
وخطب
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،
أم كلثوم ابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فقالت أم كلثوم: (لا حاجة لي فيه، إنه خشن العيش، شديد على النساء) ، وأرسلت
عائشة أم المؤمنين إلى عمرو، فقال: (أنا أكفيك) .
وأتـى عمـر، فقـال: (بلغنـي خبـر أعيـذك بالله منه) ، قـال: (ما هـو؟!) قال: (خطبت أم كلثوم بنت أبي بكر
[8] [ ص: 168 ] قال: (نعم أفرغبت بي عنها، أم رغبت بها عني؟!) قال: (ولا واحدة، ولكنها حدثة نشأت تحت كنف أمير المؤمنين في لين ورفق، وفيك غلـظة، ونحن نهابك، وما نقدر أن نردك عن خلق من أخلاقك، فكيف بها إن خالفتك في شيء، فسطوت بها، كنت قد خلفت
أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك) ، فقال: (وكيف
بعائشة ، وقد كلمتها) قال: (أنا لك بها، وأدلك على خير منها،
أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب [9] ، تعلق بها بسبب من رسول الله صلى الله عليه وسلم
[10] ، وهكذا حقق رغبة
أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق بدهائه، من غير أن يزعج
عمر بن الخطاب .
وقد قال
معاوية بن أبي سفيان يوما لعمرو: (ما بلغ عقلك؟) ، فقال: (ما دخلت في شيء قط إلا خرجت منه) ، وفي رواية أنه قال: (لم أدخل في أمر قط، فكرهته، إلا خرجت منه)
[11] ، وكان يقول: (ليس العاقل، الذي يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرين)
[12] .
لقد كان عمرو بحق: أحد الدهاة المقدمين في المكر والرأي
[13] ، وكان من شجعان العرب، وأبطالهم، ودهاتهم
[14] .
[ ص: 169 ]
6- الداهيـة
كان
الإمام الشعبي رحمه الله يقول: دُهاة العرب أربعة:
معاوية بن أبي سفيان ،
وعمرو بن العاص ،
والمُغيرة بن شُعبة [1] ،
وزياد [2] ؛ فأما معاوية فللحلم والأناة، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللكبير والصغير)
[3] .
وقالوا: (الدُّهاة أربعة: معاوية للرَّوِيَّّة، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة للمُعضلات، وزياد لكل صغيرة وكبيرة)
[4] .
وكان من دهائه، دخوله على
الأرطبون ، وتخلّصه منه، بعد أن انكشف أمره للأرطبون، فلما سمع
عمر بن الخطاب بخديعة عمرو للأرطبون، قال: (لله دَرُّ عمرو) ، كما قال عنه الأرطبون: (هذا أدهى الخَلْق)
[5] .
ولما فتح عمرو
قيسارية من
أرض فلسطين ، سار حتى نزل
غزة ، فبعث إليه عِلْجُها: (أن ابعث إليّ رجلًا أكلمه) ، وفكّر عمرو، فقال: (ما لهذا أحد غيري) .
[ ص: 166 ]
وخرج
عمرو ، حتى دخل على العِلْج، فكلّمه، فسمع كلامًا لم يسمع قط مثله، فقال العِلْج: (حدِّثني، هـل في أصحابك أحد مثلك؟! قال: (لا تسأل عن هـذا، إنّي هـيّن عليهم، إذ بعثوا بي إليك، وعرّضوني لما عرّضوني له، ولا يَدْرون ما تصنع بي!) فأمر له بجائزة وكُسْوة، وبعث إلى البوّاب: (إذا مرّ بك، فاضرب عُنُقَه، وخذ ما معه) .
وخرج عمرو من عنده، فمرّ برجل من نصارى
غَسَّان ، فعَرفه، فقال: (يا عمرو! قد أحسنت الدّخول، فأحسن الخروج) .. ففطن عمرو لما أراده، فرجع، وقال له الملك: (ما ردّك إلينا) فقال: (نظرت فيما أعطيتني، فلم أجد ذلك يَسع بني عمّي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم، تعطيهم هـذه العَطِية، فيكون معروفك عند عشرة خيرًا من أن يكون عند واحد) ، فقال: (صدقت! اعْجَل بهم) ، وبعث إلى البوّاب: (أن خلِّ سبيله) ، وخرج عمرو، وهو يلتفت، حتى إذا أَمِـنَ، قـال: (لا عُدْتُ لمثلها أبدًا) .. فلما صالحه عمرو، ودخل عليه العِلْج، قال له: (أنت هـو!!) قال: (نعم، على ما كان من غَدْرك)
[6] .
وكرّر عمرو هـذه العملية مرة ثالثة في أيام فتح مصر ، فحين استعصى عليه فتح
حِصن بابليون ، أقدم على دخول الحصن، ودخل على صاحبه، فتناظرا في شيء مما هـم فيه، فقال عمرو: (أَخْرُجُ أستشير أصحابي) .
[ ص: 167 ]
وكان صاحب الحِصن أوصى الذي على الباب، إذا مَرَّ به عمرو، أن يُلْقي عليه صخرة فيقتله، فمرّ عمرو وهو يريد الخروج برجل من العرب، فقال له: (قد دخلت، فانظر كيف تخرج) .
ورجع
عمرو إلى صاحب الحصن، فقال له: (إني أريد أن آتيك بنفرٍ من أصحابي، حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعتُ) ، فقال العِلْج في نفسه: (قَتْلُ جماعة أحبّ إليّ من قَتْلِ واحد) ، فأرسل إلى الذي كان أَمَرَهُ بما أَمَرَهُ من قتل عمرو: (ألا تَعْرِضْ له) ، رجاء أن يأتيه بأصحابه فيقتلهم.
وخرج عمرو
[7] ، وتخلّص من موتٍ أكيدٍ بِدَهَائه.
ومهما قيل في إثبات هـذه المحاولات الثلاث، أو نفيها، فإنها تدل على ما عُرف عنه من دهاء، إذ لم تنسب مثل هـذه الحالات لغيره من القادة والولاة.
وخطب
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،
أم كُلثوم ابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فقالت أم كلثوم: (لا حاجة لي فيه، إنّه خَشِنُ العيش، شديد على النساء) ، وأرسلت
عائشةُ أم المؤمنين إلى عمرو، فقال: (أنا أكفيك) .
وأتـى عُمَـرَ، فقـال: (بلغنـي خبـر أعيـذك بالله منه) ، قـال: (ما هـو؟!) قال: (خطبتَ أُمَّ كلثوم بنت أبي بكر
[8] [ ص: 168 ] قال: (نعم أفرغبتَ بي عنها، أم رغبت بها عني؟!) قال: (ولا واحدة، ولكنها حَدَثَة نشأت تحت كَنف أمير المؤمنين في لينٍ ورفق، وفيك غِلـظة، ونحن نَهَابُك، وما نقدر أن نردَّك عن خُلُق من أخلاقك، فكيف بها إن خالفتك في شيء، فسطوتَ بها، كنتَ قد خلفت
أبا بكر في ولده بغير ما يحقّ عليك) ، فقال: (وكيف
بعائشة ، وقد كلّمتها) قال: (أنا لك بها، وأدلّك على خيرٍ منها،
أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب [9] ، تعلق بها بسبب من رسول الله صلى الله عليه وسلم
[10] ، وهكذا حقَّقَ رغبةَ
أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق بدهائه، من غير أن يزعج
عمر بن الخطاب .
وقد قال
معاوية بن أبي سفيان يومًا لعمرو: (ما بلغ عقلك؟) ، فقال: (ما دخلتُ في شيء قط إلا خرجتُ منه) ، وفي رواية أنه قال: (لم أدخل في أمر قطّ، فكرهته، إلا خرجتُ منه)
[11] ، وكان يقول: (ليس العاقل، الذي يعرف الخير من الشر، ولكنّه الذي يعرف خير الشرّين)
[12] .
لقد كان عمرو بحق: أحد الدُّهاة المقدّمين في المكر والرأي
[13] ، وكان من شجعان العرب، وأبطالهم، ودُهاتهم
[14] .
[ ص: 169 ]