3- الكـاتـب
كان عمرو كاتبا بليغا، في نثره ونظمه، ولعل كتابه إلى عمر بن الخطاب يصف فيه مصر بعد فتحها، يعد من أبلغ الرسائل، ليس في العربية فقط، بل في كل لغات العالم [1] .
" فقد كتب عمر بن الخطاب، إلى عمرو: (أن صف لي مصر) ، فكتب إليه عمرو: ( ورد كتاب أمير المؤمنين -أطال الله بقاءه- يسألني عن مصر: اعلم يا أمير المؤمنين! أن مصر قرية غبراء [2] ، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر [3] ، يكنفها جبل أغبر، ورمل أعفر [4] ، يخط وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات، تجري فيه الزيادة والنقصان، كجري الشمس والقمر، له أوان يدر حلابه [5] ، [ ص: 155 ] ويكثر فيه ذبابه، تمده عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا ما اصلخم عجاجه [6] ، وتعظمت أمواجه، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوراق كأنهن في المخايل ورق الأصائل [7] ، فإذا تكامل في زيادته نكص على عقبيه كأول ما بدأ في جريته، وطما في درته [8] ، فعند ذلك تخرج أهل ملة محقورة، وذمة مخفورة، يحرثون في الأرض، ويبذرون في الحب، يرجون بذلك النماء من الرب، لغيرهم ما سعوا من كدهم، فناله منهم بغير جدهم، فإذا أحدق [9] الزرع وأشرق، سقاه الندى، وغذاه من تحته الثرى، فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، إذا هـي عنبرة سوداء، فإذا هـي زمردة خضراء، فإذا هـي ديباجة رقشاء [10] ، فتبارك الله الخالق لما يشاء، والذي يصلح هـذه البلاد وينميها، ويقر قاطنيها فيها، ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يستأدى [11] خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال على هـذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل " . فلما ورد [ ص: 156 ] الكتاب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال: (لله درك يا ابن العاص ! لقد وصفت لي خبرا، كأني أشاهده) [12] .
وليست هـذه الرسالة أبلغ رسائل عمرو، ولكنها من أبلغها، وأمثالها من رسائله كثير.
وفي سنة ثمان وعشرين الهجرية، فتح معاوية بن أبي سفيان جزيرة (قبرس ) المعروفة في البحر الأبيض المتوسط، وكان معاوية قد لج على عمر بن الخطاب في غزو البحر، وقرب الروم من مدينة حمص ، وقال: (إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم، وصياح دجاجهم) ، حتى كاد ذلك يأخذ بقلب عمر، فكتب إلى عمرو بن العاص: (صف لي البحر وراكبه، فإن نفسي تنازعني إليه) ، فكتب عمرو إلى عمر: (إني رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، إن ركن [13] خرق القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة، هـم فيه كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق [14] ) ، فلما قرأه عمر، كتب إلى معاوية: (لا والذي بعث محمدا بالحق، لا أحمل فيه مسلما أبدا) [15] .
إن بلاغته مؤثرة في العقول والقلوب معا، ولو اقتصر هـم عمرو على النثر الفني، لكان له شأن عظيم من كتاب العربية اللامعين. [ ص: 157 ]