لقد مضى على العاملين للإسلام في العصر الحديث، زمن غير قصير، وهم يتبنون الخطاب التعليمي للناس.. والخطاب التعليمي هـذا، خطاب تجريدي، قائم على تحديث الناس، بأسس الإسلام العقيدية والتصورية، والتشريعية، وحلاله وحرامه، ومحاسنه، ووعوده للناس في الدنيا والآخرة، إن هـم التزموا به... وفي الاقتصار على هـذا الخطاب [1] -مع ضرورته- إغفال لطبيعة هـذا الدين العملية.. فالإسلام دين يبدأ عمليا مع الإنسان، ومن النقطة التي يجده فيها في إكسابه كل حقوقه التي أوجبها له الله، ومطالبته بكل واجباته التي فرضها عليه، وبحسب الإمكان: ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) (الحج:78) .
ومن هـذا المنطلق، فالإنسان يترتب عليه -من ضمن ما يترتب عليه من الواجبات- ومنذ اللحظة، التي يلتزم فيها بتعاليم الدين الإسلامي، أن يتكافل مع المسلمين الآخرين، وأن يتعاون معهم، وأن يتبنى هـمومهم، ومشاكلهم، وأن يسعى معهم إلى حلها، قدر استطاعته.. وهذا التعاون، والتكافل، والتبني المتبادل، للمشاكل والهموم، هـو الذي [ ص: 33 ] يفضي بالمؤمنين إلى حالة الجسد الواحد المتماسك القوي، التي عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) [2] وقد جعل الله من التكذيب بالدين، عدم تبني هـموم ومشاكل الآخرين، ومساعدتهم، ولو بالكلمة الطيبة، وتوعد بالويل، من يمنع الماعون في حالة الاستطاعة، عمن يحتاجون إليه، فقال سبحانه: ( أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين * فويل للمصلين * الذين هـم عن صلاتهم ساهون * الذين هـم يراءون * ويمنعون الماعون ) (الماعون:1-7) .
وطبيعة الإسلام هـذه، هـي التي جعلته يتقدم الأديان الأخرى، ويتبوأ من بينها المقام الأحمد، لأنه ليس مجرد مجموعة اعتقادات وقناعات، وإنما هـو عقيدة وعمل، ومنهج حياة متكامل، جاء ليحل مكان مناهج الحياة السائدة، ففعل ذلك.. ولكن بعد محاولات عزله، من واقع الحياة إلى واقع الأذهان، عادت البشرية لتقف من جديد على حافة الردى.
إنه من سنة الله، ألا تعالج المشكلات الواقعة، إلا بحقائق تقع، تقابلها وتغيرها.
وإذا أراد العاملون للإسلام اليوم إنقاذ البشرية بالإسلام، فعليهم أن ينطلقوا من إدارك عميق لطبيعة هـذا الدين العملية، وذلك مقتضاه، [ ص: 34 ] عدم الاقتصار على الخطاب التعليمي، بل قرنه بالعطاء العملي الواقعي، الذي يحض هـذا الدين عليه أتباعه، وبوفرة من النصوص وافرة، سوف يأتي معنا منها طرف إن شاء الله، وهذا بعد القضية التعبدي.
ويتمثل هـذا البعد، والتحرك به، بحيث يصبح خطاب العاملين من أجل الإسلام للناس، خطابا عمليا، بالإضافة إلى كونه تعليميا، في كونه ينطلق أيضا، من التبني لهمومهم، وآلامهم وآمالهم، بالإسلام، وإن الخطاب، الذي ينبعث من هـذه الأرضية، لهو الخطاب المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن سـار على نهجـه بإحسـان، كما سـوف يأتي بيـانه بإذن الله... غير أنه من الواجب في هـذا المقام، التذكير بأمرين:
1- إن المقصود بهذا الالتحام بالناس، وتبني هـمومهم، وآلامهم، وآمالهم، ليس هـو خطب ودهم، من أجل الارتقاء إلى سدة الحكم على أكتافهم، ومن ثم التنكر لقضاياهم، لأن هـذه سبيل الوصوليين، وإنما المقصود هـو التقرب من الله، بنفع عياله، وهذا هـو، الذي يميز العامل بالإسلام، عن غيره، لأنه لا ينتظر جزاء ولا شكورا من الناس، فمقصوده هـو رب الناس... ومن ثم فهو لا يتبع ما يقدمه من خير منا ولا أذى... وإن لم يشكر من لدن الناس...
2- إن المقصود بهذا الالتحام، ليس هـو تسخير الناس، من أجل تثبيت نظام معين، مع عدم المبالاة بهؤلاء الناس، حيوا أم ماتوا، ربحوا أم خسروا، فهذه سبيل التجريديين، غير ذوي الفعالية في الواقع، الذين يعتبرون ما في أذهانهم، ذا أولوية على واقع الأمور، وإن كان ما في الأذهان مجانبا للصواب، وكان مجرد قناعات،
أفرزتها عقول محددة، إثر دراسات وعمليات تفكير، فيها نقص وترة. [ ص: 35 ]
إن المقصود بالالتحام بالناس، هـو تعليمهم، أن خلاصهم في الإسلام، وبالإسلام، بشكل عملي، من خلال تقديم الحلول لمشاكلهم كلها، انطلاقا من الإسلام، مع التركيز من قبل، ومن بعد، على أن أكبر مشكلة، يمكن أن يمنى بها الإنسان، هـي الخسران الأكبر، يوم العرض على الله، ولا يمكن أن يتم ذلك، إلا باعتماد عملية تربوية شاملة، رابطة بالله تعالى.
وإن هـذه السبيل، لتتضمن أسسا برهانية على صحة الإسلام، وهيمنته على الدين كله، مع قوم عندهم بقايا بذور إيمانية، تحتاج، لأن تسقى، وترعى.. وهذا بعد القضية العقيدي.
وبعد آخر، لا بد من الإشارة إلى أهميته، وهو البعد الإصلاحي التدافـعي، الذي يمنـع من إفساد الأرض: ( ولولا دفـع الله الناس بعضهـم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العـالمين ) (البقرة:251) .
فالتاريخ الإنساني في حقيقته، لا يعدو أن يكون مجموعة من التصرفات البشرية، التي تتم ضمن إطار المشيئة الإلهية، بالإرادة الإنسانية.. وهناك المحيط الابتلائي، المتمثل في الأرض، وما عليها من زينة، وما يقع فيها من أقدار الله، بسطا للرزق، أم تقديرا له، وتذليلا للأنواء، أم تصريفا لها على أوجه العسر، امتحانا وابتـلاء: ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ) (الأنبياء:35) .
هذا المحيط الابتلائي، وإن كان له تأثير على التاريخ، إلا أن الذي له تأثير أكبر، هـو نمط مواجهة البشر، لهذه المظاهر، وتصرفهم تجاهها، إن [ ص: 36 ] الأمم التي لها حضور، ويسري في كيانها نسغ الحياة، لهي الأمم، التي تغالب لصنع تاريخها، عوض أن يصنع لها، وتسعى -عوض الاستسلام والاستخذاء، والتطامن أمام إرادات الآخرين- أن توجه مسار الحياة والأحياء، خضوعا وامتثالا لأمر الله، ومعانقة لشرعته ومنهاجه: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هـم المفلحون ) (آلعمران:104) ،
( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143) .
وإن جل ما أصاب أمتنا، من الارتكاس والانحطاط، مرده بالأساس، إلى السلبية التي اتصفنا بها، من جراء التحييد والتقليد، والجبر.
فالتحييد، قد وقع على أمتنا منذ أعصر مبكرة، بحيث أوقع فينا السيف، فذبح خيارنا، وقصف منسكنا بالمنجنيق، وعولجت مشاكل، فكرية، وسياسية، وقبل ذلك، عقيدية، بالسنان عوض أن تعالج بمنطق اللسان، فطلبت السلامة في الصمت، وترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأسلم رجال السلطة -إلا من رحم ربك- لأهوائهم وغرائزهم، فازدادت الهوة اتساعا، إذ غاب مبدأ: " والله لو رأينا فيك اعوجاجا يا عمر لقومناه بحد سيوفنا " .
وحتى في الجانب العلمي، اندرس خلق: ( قل يا ابن أخي، ولا تحقر نفسك ) ، وتركز واقع: (صه) ، و (اخرس قاتلك الله) ، فانطوى المسلمون [ ص: 37 ] على أنفسهم، وأفرزت لتسميتهم كلمات مثل: (الدهماء) و (الغوغاء) و (السوقة) و (الجهلة) و (الرعاع) وغيرها... فأسلم العلماء أيضا -إلا من رحم ربك- لأنفسهم، واستخذوا لهذا الواقع.. بل عضدوه بممارساتهم، فأصبحت تجد في مقدمة كتاب أحدهم مثلا: (تأليف الشيخ الأكبر، والكبريت الأحمر، الإمام، المجتهد، العارف بالله...) [3] ، أو تجد: (قال الشيخ الإمام، العالم، العلامة، الـحبر الفهامة، المحقق المدقق، الحجة، الحافظ، المجتهد، شيخ الإسلام والمسلمين، وارث علوم سيد المرسلين، جلال الدين، أوحد المجتهدين) [4] . فلا يبدأ القارئ القراءة، إلا وقد أصيب بالشلل العقلي.. ويدعم ذلك في غضون الكتاب بعبارات مثل: (وهذا لا يقوله مسلم) [5] ، أو قد تجد مباشرة عبارة: (ولعن الله من يقول هـذا، فما يقوله مسلم) [6] واضمحلت الثقة الممكنة من النصيحة، التي جعلها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ، هـي الدين في قوله: ( الدين النصيحة ) [7] ، وحتى حين تقع [ ص: 38 ] النصيحة، فإنها تعارض بالتجهيل، والتفسيق، والرمي بالزندقة، في أحيان كثيرة، فانزلقت الأمة، إلى غياهب التحييد، فالسلبية، التي أدت إلى التقليد، الذي أدى بدوره إلى الكسل العقلي، فالإبداعي، وهو كسل وجد تكأته، في عقيدة الجبر، التي شاعت في الأمة، فأدت إلى التواكل، فكأنما يصدق فينا قول الشاعر:
فلو كان سهما واحدا لاتقيته ولكنـه سـهم وثان وثالـث
إن رفع هـذا القدر من البلاء، لا يمكن أن يتم، إلا بالممارسات الإيجابية، التي ينبغي أن يضطلع بالقيام بها جميع المسلمين، كل من زاويته، وبحسب قدرته، مما هـو كفيل -إن شاء الله- بإعادة الثقة، وزرع الحياة في أوصال الأمة، وتفتيق الإبداع، في عقول أبنائها، كيما يجددوا كيانها، ويعيدوا بناء الحضارة، وصياغة التاريخ، على هـدى من الله، وامتثال لأوامره.فهذه أبعاد ثلاثة أساسية، تؤطر حركة الإنسان المسلم، في الواقع، بأوامر الله عز وجل ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، الحاثة، على تبني هـموم الناس، والتكافل، والتعاضد معهم، قصد اجتياز عقبات مشاكلهم، زلفى إلى الله، وبرهنة على صلاحية دينه، لكل مكان وزمان، ودفعا للبلاء، وإقامة لبنيان خير أمة على للناس، من جديد.
وسـوف أتتـبع - بعون الله - في معـالجة هـذا الموضـوع، الخطوات الآتيـة: [ ص: 39 ]
* الفصل الأول : نصوص من كتاب الله في تبني هـموم الناس.
* الفصل الثاني: نصوص من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
، في تبني هـموم الناس.
* الفصل الثـالث : تبني صالحي الأمة لهموم الناس:
- المبحث الأول : عمل الصحابة ( رضوان الله عليهم) .
- المبحث الثاني : عمل التابعين (رحمهم الله) .
- المبحث الثالث: سيرة السلف الصالح (رحمهم الله) .
- المبحث الرابع: سيرة أهل الدعوة والجهاد في العصر الحديث (رحمهم الله) ..
* الفصل الرابـع : من أسباب انحسار خلق تبني هـموم الناس:
أولا : السبب العقيدي.
ثانـيا : السبب التربوي.
ثالثـا : السبب التصوري.
رابعـا : السبب الفقهي.
خامسا : السبب الواقعي:
1 - الاسـتبداد.
2 - الفرقـة.
* الخـاتمة.
ولا أود - في هـذا الموضع - أن يفوتني شكر جميع إخواني، الذين أغنوا هـذا الكتاب بملاحظاتهم، فجزاهم الله خيرا، والله أسأل -ابتداء وختاما- الإخلاص، والتوفيق، والسداد. [ ص: 40 ]