المبحث الرابع
المذاكرة في عهد التابعين ومن بعدهم
إذا كان الصحابة قد حذروا من ترك المذاكرة، فإن التابعين بدورهم سيسيرون على نمطهم، تورعا منهم من الوقوع في المحذور، ومحافظة على التحديث النبوي الشريف. من أجل هـذا، سيؤكدون على ضرورة الاقتداء بطريقة الصحابة، الذين كان لهم السبق في هـذا المجال، وسيبينون للطلاب أن آفة العلم ترك المذاكرة، فلا نستغرب إذا ما وجدنا هـذه الظاهرة شائعة بين القوم. وخير ما يصور ذلك، ما رواه أيوب بن المتوكل عن عبد الرحمن بن مهدي ، قال: " كان الرجل من أهل العلم إذا لقي من هـو فوقه في العلم فهو يوم غنيمته، سأله وتعلم منه، وإذا لقي من هـو دونه في العلم، علمه وتواضع له. وإذا لقي من هـو مثله في العلم، ذاكره ودارسه " [1]
وإن المتتبع لهذه المرحلة، يلمس مدى اتساع دائرة المذاكرة، وهي تعود إلى الأمور التالية:
1- الحفظ
في سبيل الحفظ، نجد من العلماء من كان يحدث الجواري، ولو كن علجا لا يفهمن العربية، وما ذلك إلا من أجل الحفظ. وفي هـذا الصدد، نورد ما رواه الحارث بن يزيد الحضرمي ، دليلا على ما قلناه، [ ص: 82 ] فقد قال: " دخلت على علي بن رباح [2] ، وهو في الشمس، وعنده جارية- لا أعلم إلا أنه قال: علجة- وهو يقول: قال عمرو بن العاص : قال فلان: قال فلان: قلت له: تحدث شك هـذه بهذه الأحاديث؟! فقال: ليست هـي بي، إنما أستذكر حديثي " [3]
ومنهم من كان يسعى لتحقيق ذلك عن طريق جمع الغلمان وتحديثهم. وفي هـذا روى الأعمش قال: " كان إسماعيل بن رجاء يجمع صبيان الكتاب يحدثهم، يتحفظ بذاك " [4]
وفي رواية أخرى أخرجها الرامهرمزي ، أن إسماعيل بن رجاء " كان يجمع غلمان المكاتب ويحدثهم لكيلا ينسى حديثه " [5] أما إذا لم يوجد من يذاكره، فإنه يراجع مع نفسه [6]
2- معرفة الأحفظ
دعت الضرورة إلى معرفة مدى حفظ الراوي؛ لأنه ينقل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي يعتبر تشريعا للمسلمين، فيه الحلال والحرام...لذلك كان من اللازم التحري، ومعرفة الراوي الناقل للخبر، إذ يترتب على الحكم عليه بالحفظ والإتقان، أو سوء الحفظ، أو أنه [ ص: 83 ] يروي المناكير [7] ، أو أنه تغير بآخره [8] ، قبول روايته أو ردها عن طريق الحكم عليها بالصحة أو الضعف، أو يتم ترجيح أحد الخبرين المتعارضين فيما إذا تفاوت الراويات للخبرين في الحفظ، فتقدم رواية الثبت الحافظ على غيره، أو لغيرها من الأسباب.
والذي تغير بأخره إما لكبر سنه، وتأثير الشيخوخة عليه، وإما لصدمة نفسية بسبب احتراق كتبه مثلا، إذا ثبت أنه روى الحديث وهو في غير حالته الطبيعية، أما إذا استحال التمييز بين الروايات التي رواها قبل وبعد تغير حاله، فإن مروياته تطرح جملة وتفصيلا، ولا يعمل بها تحرزا من الوقوع في المحذور.
والتعرف على الأحفظ قد يكون ناتجا عن كثرة المذاكرة والمعاشرة له، فيلمس المحدثون قدرته وكفاءته، كما يبدو من " قول عطاء : كنا نأتي جابر بن عبد الله ، فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا، فكان أبو الزبير أحفظنا لحديثه " [9]
وعن صالح بن محمد قال: " أعلم من أدركت بالحديث وعلله: علي بن المديني ، وأحفظهم له عند المذاكرة: أبو بكر بن أبي شيبة " [10]
كما يمكن التعرف على الأحفظ عن طريق الاختبار، كما في رواية ابن أبي حاتم عن أبيه قال: " قدم محمد بن يحيى النيسابوري الري ، [ ص: 84 ] فألقيت عليه ثلاثة عشر حديثا من حديث الزهري ، فلم يعرف منها إلا ثلاثة أحاديث، وسائر ذلك لم يكن عنده، ولم يعرفها " [11]
وانظر اختبار المحدثين للبخاري (ت256هـ) ، وقلبهم عليه مائة حديث، ليروا بأنفسهم ما إذا كان سيفطن إلى صنيعهم بالأحاديث أم لا [12] ، حتى يعترفوا له بالمشيخة والحفظ إن فطن، أو يعدوه دونهم مكانة إن لم يفطن.
3- معرفة الأضبط
كان المحدثون يبحثون عمن يضبط الحديث ضبطا دقيقا، فلا يضيع منه حرفا، وفي سبيل ذلك، كانوا يخضعون المحدث للامتحانات، التي يظهر بها الجهبذ من غيره. فلا نستغرب إذا ما وجدناهم يسمعون الحديث من الراوي ويكتبونه عنه، ثم يمهلونه مدة معينة، ثم يطلبون منه أن يعيد على مسامعهم ذلك الحديث بعينه، حتى يتبين لهم مقدار ضبطه. وفي ذلك يروي عمارة بن القعقاع عن إبراهيم قوله: " إذا حدثتني فحدثني عن أبي زرعة ، فإنه حدثني بحديث، ثم سألته بعد ذلك بسنة، فما أخرم منها حرفا " [13]
وهذا الضبط ليس بالمستبعد عنهم، وقد تربى هـذا الجيل في أكناف الصحابة، الذين تربوا هـم بدورهم في المدارس المحمدية، فقد تعلموا منهم أن تبليغ الحديث كلمة كلمة أفضل القربات إلى الله تعالى. هـذا الجيل الذي لما أمره عليه السلام ، بالتجمع في المسجد ليخطب فيهم، [ ص: 85 ] بقوله: " احتشدوا للصلاة غدا، فإن لي إليكم حاجة " ، قالت جماعة: " دونك أول كلمة يتكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت التي تليها، لئلا يفوتكم شيء من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم " [14]
وأهمية هـذا الضبط تتجلى في كون من يضبط أحاديثه يقدم على غير الضابط. وبهذا نحافظ على الدين والدنيا.
4- معرفة الأفقه
يتعرف المحدثون على الأفقه، في مذاكراتهم التي تتخذ على شكل اختبارات أحيانا، كما تبين لنا، يصور لنا ذلك ما جاء على لسان إسحاق بن راهوية . قال: " كنت أجالس بالعراق أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وأصحابنا، فكنا نتذاكر الحديث من طريق وطريقين وثلاثة، فيقول يحيى بن معين من بينهم: وطريق كذا؟ فأقول: أليس قد صح هـذا بإجماع منا؟ فيقولون: نعم. فأقول: ما مراده؟ ما تفسيره؟ ما فقهه؟ فيبقون كلهم إلا أحمد بن حنبل " [15]
وتكمن أهمية التعرف على الأفقه في ترجيح روايته على غير الفقيه حال الرواية بالمعنى؛ لأنه يكون أعلم بمدلول الحديث من غيره.
5- الاطلاع على مدى سعة علم الراوي
يظهر مدى علم الراوي من خلال المذاكرة والمعاشرة والاختبار. لذا نجد أمثال هـذه الأحكام التي تصدر عن كبار علماء الحديث [ ص: 86 ] كالزهري في قوله: " كنت إذا سألت عبد الله بن عبد الله ، فكانما أفجر بحرا " [16]
وعنه أيضا قال: " كنت أحسب بأني أصبت العلم فجالست عبد الله، فكأني كنت في شعب من الشعاب " [17]
وعن الإمام مالك - رحمه الله - قال: " قدم ابن شهاب المدينة ، فأخذ بيد ربيعة ، ودخلا إلى بيت الديوان . فلما خرجا وقت العصر، خرج ابن شهاب وهو يقول: ما ظننت أن بالمدينة مثل ربيعة. وخرج ربيعة يقول: ما ظننت أن أحدا بلغ من العلم ما بلغ ابن شهاب " [18]
فهذا ابن شهاب، مع مكانته العلمية، يصرح بسعة علم الغير دون حرج، وكذا صدر من ربيعة، وهذا تواضع لا نرى له مثيلا في عصرنا.
والنتيجة هـي أن من علم بكفاءته، يجله الخاصة والعامة، ويوقرونه، ويلزمه طلاب العلم للأخذ عنه والاستفادة منه، هـذا التبجيل الذي دفع بالإمام مسلم - صاحب الصحيح - وقد جاء إلى البخاري ، إلى أن يقبله بين عينيه ويقول له: " دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله... " [19]
على أن هـذا لا يعني أن الإجلال للعلماء لم يكن إلا في عهد التابعين، فإنه من أخلاق المسلمين، ومن أخلاقهم الاعتراف بالمكانة العلمية للفرد. ونستطيع أن نتمثل ذلك فيما رواه ابن القيم في زاد المعاد، إذ قال: " .. وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي ، يذاكر أبا محمد بن داود الظاهري، [ ص: 87 ] ولا يسميه بالفقيه، فتحاكم إليه يوما هـو وخصم له. فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود، فتهيأ للحلف، فقال له القاضي إسماعيل: أو تحلف، ومثلك يحلف يا أبا بكر؟ فقال: وما يمنعني من الحلف وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه؟ قال: أين ذلك؟ فسردها أبو بكر. فاستحسن ذلك منه جدا ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم " [20]
وقد يظهر عن طريق الاختبار أن الرجل هـزيل العلم، ومع ذلك ينصب نفسه للفتيا، بل ويتجرأ على الحط من قيمة المحدثين، كما يبدو فيما رواه الخطيب عن أحمد بن علي الأبار. قال: " رأيت بالأهواز رجلا حف شاربه. وأظنه قد اشترى كتبا وتعبأ للفتيا. فذكروا أصحاب الحديث، فقال: ليسوا بشيء، وليس يسوون شيئا، فقلت له: أنت لا تحسن تصلي. قال: أنا؟ قلت: نعم. قلت: إيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا افتتحت الصلاة ورفعت يديك؟ فسكت. فقلت: وإيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وضعت يديك على ركبتيك؟ فسكت. قلت: إيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجدت؟ فسكت.. " [21] [ ص: 88 ]
6- معرفة مدى عدالة الرواة
معرفة مدى عدالة الرواة مهمة جدا عند المحدثين؛ لأنه يترتب عليها قبول رواية العدل إذا كان ضابطا، ورد رواية الفاسق غير المتأول. وهذا يدخل فيما يسمى بعلم الجرح والتعديل.
وهكذا نجد المحدث يجلس مع صاحبه، ليذكر عيوب راو معين أو محاسنه، ولا يعدون ذلك من قبيل الغيبة المنهي عنها. فقد كان شعبة بن الحجاج يجيء إلى عمران بن حدير فيقول له: " قم بنا حتى نغتاب ساعة في الله تبارك وتعالى " [22] وفي رواية أخرى عنه: " تعالى حتى نغتاب ساعة في الله عز وجل ، نذكر مساوئ أصحاب الحديث " [23] فيتم التعرف على العدل والفاسق والكذاب.
وبالإضافة إلى مذاكرة الواحد لصاحبه قصد الاستفادة منه يذاكر غيره اختبارا، فيحاسب من ادعى سماع حديث من أحد الرواة بالسنين مثلا، أي سنة وفاة المروي عنه، وسنة ولادة الراوي، أو سنة السماع، وسنة الوفاة، ودراسة مدى إمكانية لقائهما.
وفي هـذا ما رواه البسوي عن عفير بن معدان قال: " قدم علينا عمر بن موسى حمص ، فاجتمعنا إليه في المسجد، فجعل يقول: ثنا شيخكم الصالح، ثنا شيخكم الصالح، فلما كثر. قلت له: ومن شيخنا الصالح؟ سمه لنا حتى نعرفه. فقال: خالد بن معدان . قلت: في أي سنة لقيته؟ قال: [ ص: 89 ]
لقيته سنة ثمان ومائة. قال: وأين لقيته؟ قال: لقيته في غزاة أرمينية . قال: قلت له: اتق الله عز وجل يا شيخ، لا تكذب، مات خالد بن معدان سنة أربع ومائة. فأنت تزعم أنك لقيته بعد موته بأربع سنين. وأزيدك آخر، إنه لم يكن يغزو أرمينية ، كان يغزو الروم " [24]
7- معالجة القضايا
كما نجدهم أيضا في مذاكراتهم يعالجون القضايا المختلفة، حديثية كانت أو فقهية، أو غيرها، سبق أن حدثت أو هـي مستحدثة.
ومن هـذا القبيل، ما رواه الإمام أحمد ( عن العلاء ، قال: " دخلنا على أنس بن مالك بعد الظهر، فقام يصلي العصر. فلما فرغ من صلاته، تذاكرنا تعجيل الصلاة، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تلك صلاة المنافقين ثلاث مرات، يجلس أحدهم حتى إذا أصفرت الشمس، وكانت بين قرني الشيطان، قام نقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا ) [25]
وعن مالك بن أبي مريم قال: " دخل علينا عبد الرحمن بن غنم ، فتذاكرنا الطلاء، فقال: حدثني أبو مالك الأشعري ( أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليشربن ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها ) [26] [ ص: 90 ]
8- تصحيح الأخطاء
يهتم المحدثون بتصحيح أخطاء المخطئ، سواء تعلق الأمر بالحديث أو فقهه. ففيما يتعلق بالفقه، روى أيوب قال: " تذاكرنا بمكة الرجل يموت. فقلت: عدتها من يوم يأتيها الخبر. لقول الحسن وقتادة وأصحابنا. قال: فلقيني طلق بن حبيب العنزي ، فقال: إنك علي كريم، وإنك من أهل بلد، العين إليهم سريعة، وإني لست آمن عليك. وإنك قلت قولا هـاهنا خلاف قول أهل البلد. فقلت: وفي ذا اختلاف؟ قال: نعم. عدتها من يوم توفي. فلقيت سعيد بن جبير فسالته، فقال: عدتها من يوم توفي، وسألت مجاهدا، فقال: عدتها من يوم توفي، وسألت عطاء بن أبي رباح فقال: من يوم توفي. وسألت أبا قلابة فقال: من يوم توفي. وسألت محمد بن سيرين فقال: من يوم توفي. قال: وحدثني نافع أن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: من يوم توفي. وسمعت عكرمة يقول: من يوم توفي. قال: وقال جابر بن زيد: من يوم توفي. قال: وكان ابن عباس يقول: من يوم توفي. قال حماد: وسمعت ليثا يحدث عن الحكم أن عبد الله بن مسعود قال: من يوم توفي. قال: وقال علي : من يوم يأتيها الخبر قال عبد الله بن عبد الرحمن: أقول من يوم توفي [27]
وقد يعتقد الراوي الذي يحدث من حفظه أنه يحدث من مكتوباته، فإذا بالسامع يفطن إلى أنه إنما يروي مما ذوكر به في صباه مثلا، فينبهه إلى ذلك، كما حدث لأبي عوانة، فقد روى عبد الرحمن بن مهدي قال: ذاكرني أبو عوانة بحديث. فقلت: هـذا ذوكرت به وأنت شاب، [ ص: 91 ]
فعلق بقلبك، فظننت أنك قد سمعته " [28]
وسبب هـذه التفرقة أن القوم في حال التحديث يتشددون، أما في حالة المذاكرة فإنهم يتساهلون، لذلك لا يحتجون بما يسمعونه مذاكرة، ولا يتحملون إلا ما سمعوا في مجالس التحديث أو الإملاء.