المبحث الثاني
المذاكرة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
كما سنرى سيتغير مدلول المذاكرة وأهدافها عبر المراحل، بسبب ما طرأ على بعض المحدثين من طوارئ الزمان من جانب، وبسبب ادعاء البعض العلم، وتطاولهم على الفتيا، في حين أنهم لم يكونوا في مقامها من جانب آخر. [ ص: 76 ]
من أجل هـذا كله، سنجد أن المذاكرة في عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، لها مدلول ضيق، إذا ما قارناها بما ستحمله في المراحل التالية. وعن طريق رصد هـذه الأهداف يمكن التمييز بين الأمور الآتية:
1-الحفظ
يظهر هـذا الهدف في كثير من النصوص، منها ما تبرز الصحابة وهم في حالة مذاكرة، بعد انتهاء الرسول صلى الله عليه وسلم من التحديث، كما في رواية " أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وسلم - وربما كانوا نحوا من ستين إنسانا - فيحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يقوم، فنتراجعه بيننا هـذا وهذا. فنقوم وكأنما قد زرع في قلوبنا " [1]
2- التفقه
إن الهدف المتوخى من الاطلاع على الخبر وحفظه، يرتبط بفهم معانيه الجلية والدقيقة، فمن حفظ وفهم ما استوعبته ذاكرته، كان كوردة لها رائحة زكية، أما الذي وقف عند حدود الحفظ دون معرفة المعاني، فإنه مثل وردة لا رائحة لها.
والدين الإسلامي جاء بمجموعة من المبادئ والمعتقدات السامية، فيجب أن تدرك، وعلى المرء أن يتفقه فيما يعي صدره من ذلك، خصوصا وأن ما نأمله هـو الإصلاح، ولا إصلاح بدون فهم، ولا إصلاح بدون علم، ومن يريد الإصلاح بدون أدوات يكاد أن يقع في المحظور. ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) [الرعد:11] [ ص: 77 ]
لهذا، نجد الصحابة يتناولون القضايا بالدرس، قصد فهم روح التشريع الإسلامي، انطلاقا من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية. وفي ذلك، ما ( رواه الجارود رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في بعض أسفاره، وفي الظهر قلة، إذ تذاكر القوم الظهر. فقلت: يا رسول الله، قد علمت ما يكفينا. فقال: وما يكفينا.. ) [2]
( وعن حذيفة بن أسيد قال: اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر الساعة، فقال: ما تذكرون؟ قالوا: نذكر الساعة. فقال: إنها لن تقوم حتى تروا عشر آيات... ) [3]
ونلاحظ في هـذا العهد، أنه إذا كانت المذاكرة من أجل الحفظ فهي موكولة غالبا إلى الصحابة، وأنها عندما تتعلق بالتفقه، يشرف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على ذلك، إما بصفة مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة، كما في الحالة التي يبلغه فيها فهم أحد الصحابة لآية أو حديث، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إما أن يقره، أو ينكر ذلك عليه. ومن هـذا القبيل ما روي ( عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء، فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر. ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرا ذلك له. فقال للذي لم يعد: أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك، وقال للآخر: لك الأجر مرتين )
[4] [ ص: 78 ]