الفصل الثالث
ضمانات الحقوق السياسية في الشريعة
لم تكتف الشريعة الإسلامية بتقرير قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحاسبة، كحق سياسي للمسلمين، وواجب عليهم فقط، بل جاءت الشريعة كذلك بوسائل عملية، لضمان قيام الأمة والأفراد، بمزاولة هـذا الحق وإقامته، حيث حددت الشريعة جهات رئيسة تتولى القيام به هـي: الدولة والجماعات والأفراد.
أما من حيث مسئولية الدولة كوسيلة لضمان الحقوق السياسية، لتنبثق من ما تقرر بالشريعة، فالدولة الإسلامية تقع عليها مسئولية إصلاح المجتمع، الذي لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتأكد من إقامة أحكام الشرع، وذلك لامتلاك الدولة القوة السياسية والمادية الضرورية لمتابعة حسن تطبيق أحكام الإسلام.
قال تعالى: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ) [الحديد:25].
فالمراد من الحديد، كما يؤكده المودودي "هو القوى السياسية"، ولذلك فغاية بعث الرسل: إقامة "نظام العدالة الاجتماعية". وذلك يدل على أن هـدف الدولة ليس سلبيا، يتمثل في حماية الحرية الفردية، والدفاع عن الدولة، وإنما غايتها الإيجابية: إقامة نظام العدالة الاجتماعية [1]
الذي لا يتحقق إلا بقيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمكين الرعية من القيام به. وقد جاء عن سيدنا عثمان عبارة مشهورة تجسد هـذا المفهوم وهي " "يزع الناس السلطان أكثر مما يزعهم القرآن" "
[2]
وقد أكد الله سبحانه وتعالى ذلك بقوله: ( الذين [ ص: 86 ] إن مكناهم في الأرض ) [الحج:41]، ومعناها كما جاء في صفوة التفاسير: "هؤلاء الذين يستحقون نصرة الله، هـم الذين إن جعلنا لهم سلطانا في الأرض، وتملكا واستعلاء، عبدوا الله، وحافظوا على الصلاة، وأداء الزكاة" [3]
ولذلك فالتمكين بمعنى الحكم، أي الذين تناط بهم أمور الرعية. ولذلك ربط ابن تيمية رحمه الله بين الولاية، وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث جعل أصل الولاية الأمر بالمعروف: الولايات كلها: الدينية - مثل إمرة المؤمنين وما دونها - من ملك ووزارة وديوانية - ومثل إمارة حرب، وقضاء، وحسبة، وفروع هـذه الولايات - إنما شرعت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
[4]
هذا بالنسبة للدولة، أما الجماعات فدورها لضمان القيام بما أوجب الشرع، من أمر بمعروف ونهي عن منكر ومحاسبة، كحق وواجب سياسي على الأمة والأفراد، فينبع من قوله تعالى: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) [آل عمران:104].
حيث يقول ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هـذه الآية: "ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال الضحاك : هـم خاصة الصحابة وخاصة الرواة. يعني: المجاهدين والعلماء. والمقصود من هـذه الآية أن تكون فرقة من هـذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه" [5]
وعليه فإن هـذه الآية توجب على المسلمين إيجاد جماعات إسلامية، بهدف ضمان الحقوق السياسية للمسلمين، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير. ومن الواضح أنه ليس المراد من الآية هـنا، قيام كل المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل المراد إيجاد الجماعة التي تتولى هـذا الشأن "فالأمر الإلهي مسلط على إقامة الجماعة، [ ص: 87 ] وليس على العملين" [6]
وتتولى هـذه الجماعات الإسلامية التأكد من حسن تطبيق الراعي والرعية للشرع. ومن الواضح أن الهدف الذي من أجله طلب الشارع قيام هـذه الجماعات الإسلامية، لا يتحقق إلا بأداء هـذه الجماعات لأعمال سياسية، أهمها أمران:
الأول: هـو مناصحة الحكام ومحاسبتهم للتأكد من التزامهم بأحكام الإسلام.
الثاني: القيام بمهام النصيحة لأفراد المسلمين وعامتهم، ومراقبة انحرافهم عن تطبيق أحكام الشرع.
وقد ورد في ذلك العديد من الأدلة المؤكدة على مناصحة الحكام ومحاسبتهم، منها قوله صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) [7]
وقد جعل الإسلام كذلك محاسبة الحاكم أفضل الجهاد. وفي ذلك ( يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله )
[8]
وأكد عليه الصلاة والسلام في موقع آخر أهمية محاسبة الحاكم في حياة الأمة، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم ) .
( وقال صلى الله عليه وسلم : "والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم ) [9]
أما الشق الثاني من عمل الجماعات في المجتمع، فيتعلق بنصح المسلمين، وتنبيههم إلى ضرورة التمسك بالشرع، والعمل على تثقيفهم، ونشر الأفكار، التي تعالج شئون الأمة [ ص: 88 ] السياسية والاقتصادية والاجتماعية بينهم، بهدف النهوض بهم، لتحمل مسئولية الخلافة في الأرض، وعمارة الكون. ومما سبق يظهر جليا أهمية الجماعات السياسية الإسلامية كما: يتضح لنا إذن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليس فقط منحصرا في إطار المسلكيات الفردية للناس العاديين، بل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هـو في الأساس عملية تصحيحية وردعية لأي حاكم تحدثه نفسه بظلم الناس، أو ببخسم أشياءهم أو هـضمهم حقوقهم
[10]
أما الجهة الثالثة والمسئولة عن ضمان القيام بالحقوق السياسية للأمة، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم الأفراد، وما ذكرنا من أدلة بشأن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ينطبق على كل فرد بحسبه، ويكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحقهم لذلك، فرض كفاية، بمعنى: إذا قامت به الجماعات والدولة سقط وجوبه عنهم. أما عند عدم قيام الدولة أو الجماعات بذلك فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يصبح قائما على كل فرد بحسب استطاعته، حيث ( يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان )
[11]
وعليه، فإن الشريعة الإسلامية تنيط بكل من الدولة والجماعة والأفراد مسئولية ضمان قيام الحقوق السياسية للأمة، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يجب على الدولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعاونها في ذلك الجماعات والأفراد، ويتأكد هـذا إن قصرت الدولة في ذلك، أو تولى أمرها من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، فيجب على الجماعات والأفراد القيام بهذا الفرض. فالأمر بالمعروف فرض كفاية، وكونه فرض كفاية يعني أن الأمة كلها مكلفة بإقامته، ولكن إن أقامه بعضهم كدولة مثلا، والذي هـو في حقها أوجب، سقط عن الفئات الأخرى، وفي حالة التقصير يطال الوجوب كل فرد من الأمة. وبتحقيق ذلك تسير الأمة والمجتمع والدولة في طريق الرقي، تصان من عوامل الهدم والانحطاط، الذي هـو نتيجة حتمية للانحراف عن شرع الله تعالى ودينه الحق. [ ص: 89 ]