3 - العناصر الأساسية في الواقع الإسلامي الراهن
لقد انتهينا آنفا، إلى أن من مهام الفكر الإسلامي الإصلاحي اليوم، قراءة واقع المسلمين، قراءة عميقة، وأن هـذه القراءة لا تكون موفية بالغرض إلا إذا كانت قراءة مفصلة، تتناول الأوضاع، والمشاكل، مجزأة في المجالات المختلفة، فيما يشبه الفحص الطبي الشامل لجسم المريض، للوقوف على العلل في مواضعها التفصيلية. إلا أن هـذه القراءة الشاملة المفصلة لا تكون مجدية، إلا إذا تمت على أساس من المعرفة بالعناصر الأساسية، التي تحكم الواقع الإسلامي، والتي تدخل في تكوين جزئياته وفصوله كلها، وتسير تفاعلاته كلها فالمعرفة بهذه العناصر الأساسية العامة من حيث مدخليتها في تكوين الواقع الإسلامي، تعتبر كالمفتاح الذي لا تتم معرفة التفاصيل إلا به، ولا تفهم إلا على أساسه، كما أنها تقوم مقام العاصم، الذي يعصم من الوقوع في أحكام جزئية، مفصولة عن سياقها الكلي العام، فتكون عرضة بذلك للخطأ.
هذا وإن المتأمل في الواقع الإسلامي اليوم من حيث العوامل المؤثرة فيه، تصورات ثقافية عقدية، وسلوكا عمليا، يجد أن [ ص: 137 ] عوامل أساسية ثلاثة هـي التي تفعل فيه، وعنها تصدر أحداثه، وبها تتوجه مناشطه، وذلك عن تفاوت بينها في درجة الفعل والتوجيه، ولكن بتشارك متدافع في الغالب، لا يغيب فيه واحد منها. وهذه العناصر الثلاثة هـي: العنصر الديني، والعنصر التاريخي، والعنصر الحضاري الغربي. وفيما يلي بيان موجز لهذه العوامل. أ - العامـل الدينـي من المفروض نظريا أن التسمية بالواقع الإسلامي، تكون دالة على أن هـذا الواقع موضوع بحثنا، واقع محكوم بالحقيقة الدينية الإسلامية، دون غيرها حتى يكون جديرا بهذه التسمية.
ولكن الحقيقة أن واقع المسلمين آل منذ زمن إلى وضع، لم تصبح فيه القيم الدينية هـي الحاكم الأوحد، ولا الحاكم الأغلب، في كثير من المجالات ولقد انحسر السلطان الشامل للدين على مناشط الحياة، بالنسبة لما كان عليه الأمر في العهود الإسلامية الأولى انحسارا تمثل في بهوت بعض التصورات العقدية، وتراخ في فعالية الدفع إلى التعمير في الأرض، طيلة عهود الانحطاط، كما تمثل في انسحاب كامل من بعض ميادين الحياة الاجتماعية، بفعل من الغزو الثقافي المعاصر.
ومع هـذا الانحسار لسلطان الدين على واقع المسلمين، فإن العامل الديني بقي المشكل الأساسي لوجدان الأمة الإسلامية، فهو [ ص: 138 ] الذي يقوم التصور العقدي العام لمجموع الأمة، مع ما يشوبه في بعض المفاهيم من بهوت، وهو الذي ينشط حياة الفرد في محيطه الفردي، ومحيطه الأسري على وجه الخصوص، مع ما يعتري ذلك من فتور في الفعالية. وإذا كانت الحياة الاجتماعية في وجوهها السياسية والاقتصادية والقانونية العامة قد انسحب منها إلى حد كبير العامل الديني، فإن بقية من الإيقاع العام في التعامل الأخلاقي والسلوك الثقافي، بقيت محكومة بهذا العامل، وهو ما يلمسه بوضوح من يقارن بين مجتمع إسلامي، ومجتمع غربي، بناء على خبرة عملية ومعايشة فعلية.
وإذا كان الواقع الإسلامي على النحو الذي ذكرناه من حيث فعالية العامل الديني فيه، كما تبدو في ظاهر الحياة، فمن المهم جدا أن نلاحظ أن الضمير الجمعي العام للأمة الإسلامية، لم يفقد من الانفعال بالدين، ما فقد الواقع الخارجي الظاهر، وكأن حقيقة الدين ظلت قوة مختزنة في هـذا الضمير، افتقدت من قوة الدفع ما قصرت به عن أن تفيض سلوكا متدفقا في مناشط الحياة كلها ولكنها لم تفقد من حضورها في الضمير ما يحبط قوتها الكامنة، بل ظلت تلك القوة مستكنة بضغوط التراكمات التاريخية، والغزوات الثقافية، مع الاستعداد للظهور الفاعل، إذا ما توفرت شروط لذلك، وقد صور هـذا المعنى أدق تصوير أحد الدعاة المعاصرين فقال في المجتمع الإسلامي بعد خبرة عميقة به: " لا تزال في كوامن [ ص: 139 ] فطرته أقدار من التدين، ولذلك بالتذكير القليل تستيقظ هـذه الأقدار كلها، وتكاد تحدث معجزة في دفع التحول. وتشاهد أحيانا في الفرد الواحد كيف يحدث الانقلاب فيه من حادث يطرأ عليه، أو موقف يصدمه، فيذكره بالله، فيحدث انقلاب هـائل في حياته كلها، ويحدث مثل ذلك على صعيد المجتمع " [1] .
ومن شواهد هـذه القوة للعامل الديني في وجهه الكامن في الأمة، ما حدث في العالم الإسلامي، من طفرة دينية عرفت اصطلاحا بالصحوة الإسلامية، حينما انقلبت محافل الشباب الإسلامي خاصة منذ عقدين أو ثلاثة، بشكل يشبه أن يكون فجئيا، من محافل تكاد تخلو من أقدار التدين، فكرا وسلوكا، إلى جحافل تكاد تكون غالبة من الساجدين لله بالفكر والسلوك. وما تفسير ذلك إلا بتوفر شروط موضوعية في واقع الأمة الإسلامية، انطلق بها ضميرها الديني المستكن، يعبر عن نفسه في توجيه الحياة الظاهرة قبلة الدين، فكانت الصحوة الإسلامية المتجاوبة في أنحاء العالم الإسلامي.
وكثير من المهتمين بواقع المسلمين، على اختلاف مشاربهم، لم يقدروا هـذا العامل الديني حق قدره. فسقطوا في خطأ شنيع في [ ص: 140 ] فهمه، وبنوا على ذلك الفهم الخاطئ تصرفات، ظنوا أنها طريقة تقويم، فلم تغن شيئا، وربما أدت إلى عكس المرغوب. ولعل أوضح مثال لذلك، أولئك الذين هـالهم ما في الواقع الإسلامي من انحراف عن الدين، فقدروا أنه ما دام الدين لا يطبق جملة في واقع المجتمع، فإن هـذا المجتمع مجتمع جاهلي، مسلوبة عنه صفة الإسلام، وترتب على ذلك هـجران هـذا المجتمع من جهة، والعمل على مقاومة ما فيه من جهالة بوسائل مختلفة، لا يستثنى منها العنف من جهة أخرى. وكانت النتيجة أن هـؤلاء لا ظهرا أبقوا ولا أرضا قطعوا، وما كان لتصرفاتهم أثر يذكر في تقويم الواقع.
وفي مقابل هـؤلاء الذين لا يعدمون إخلاصا، وإن عدموا الفهم الصائب، ظن بعض المتربصين بالمجتمع الإسلامي أن مظاهر الخلل في فعالية العامل الديني، في بعض نواحي الحياة ترسبا لمخلفات الانحطاط الحضاري، وتأثرا بالغزو الثقافي، هـي أعراض حقيقية لتحول نحو تصرم العامل الديني أصلا، وصيرورة المجتمع إلى اللائكية والإلحاد، فتداعوا بهذا الظن في تقدير الواقع إلى تكريس كل ما فيه إضعاف لعامل الدين وإحباط له، فكانت السياسة العلمانية الشاملة، التي شهدتها مناطق كثيرة من العالم الإسلامي، وقد أغفل هـذا التقدير تلك الفطرة الدينية الكامنة في الأمة، والتي كانت تصرفاتهم العلمانية أحد أهم العوامل في إيقاظها، متمثلة في الصحوة الإسلامية على سبيل رد الفعل والدفاع عن الذات. [ ص: 141 ]
هذان المثالان على اختلاف طبيعتهما يدلان على أن العنصر الديني عامل فاعل في الواقع الإسلامي، فالخطأ في تقديره وفهمه في ظاهره وباطنه، باديه ومكنونه، يفضي لا محالة إلى قصور في فهم ذلك الواقع، ويؤدي بالتالي إلى الخسران في توجيهه ليطابق هـدي الدين الذي فيه خيره وصلاحه.
ب - العامل التاريخـي نعني بالعامل التاريخي ما تراكم عبر تاريخ الأمة الإسلامية من معطيات إيجابية أو سلبية، استصحبها المجتمع الإسلامي، لتصبح عناصر مؤثرة في واقعه الحالي، بمقتضى ذلك الاستصحاب التاريخي.
ولا يخفى على المتأمل في واقع المسلمين أنه واقع للماضي دور كبير في تفاعلاته، وتوجيه أحداثه، على خلاف بعض المجتمعات الأخرى، التي خفت صلتها بالتاريخ، حتى كاد لا يبقى منه إلا ذكريات، لا فعل لها في الأحداث، وأصبح واقعها لا يخضع إلا للعوامل المستأنفة، ولعل من أوضع الأمثلة على ذلك المجتمع الأمريكي، الذي يشبه أن يكون قد انسلخ من تاريخ العالم القديم، فلم يعد له فعل يذكر فيه.
ويفعل التاريخ في واقع المسلمين، عبر جملة من المعطيات المستصحبة ذات الصبغة الكلية العامة، وهي معطيات تكونت [ ص: 142 ] وترسخت بمرور الزمن، حتى أصبحت تجري من تصرفات المسلمين على المستوى الفردي والجماعي مجرى الموجه للمواقف والأفعال، إن بصفة شعورية أو لا شعورية.
ومن أهم هـذه العناصر التاريخية وحدة الأمة الإسلامية؛ فإن التاريخ قد كرس في الأمة الإسلامية وحدة تنتظمها على امتداد أطرافها، وإذا لم تكن تلك الوحدة مستصحبة عبر التاريخ باستمرار على المستوى السياسي، وخاصة بعد سقوط الخلافة الإسلامية أوائل هـذا القرن، فإنها ظلت مستصحبة باستمرار على المستوى الثقافي والعاطفي، فإنك لو حللت نمط الحياة: آدابا وفنونا وعادات وأساليب تفكير، من أدنى العالم الإسلامي إلى أقصاه، لوجدت ذلك النمط يتقوم بقاسم مشترك في جوهره، وإن تمايزت ألوانه بين قطر وآخر. وكذلك فإن التجاوب الشعوري قائم بين المسلمين، تهزهم الأفراح والأتراح، هـزا مشتركا، وتسري المؤثرات بينهم دون تخطيط مسبق، ولا جهد مبذول.
إن عنصر الوحدة هـذا في مظهره الثقافي والنفسي، يعتبر أحد العناصر المؤثرة في الواقع الحالي للمسلمين، ويتمثل ذلك بالأخص في التداعي الفكري والإيديولوجي بينهم، وهو ما بدا جليا في الأثر الذي سرى في معظم البلاد الإسلامية من حركة الإخوان المسلمين التي نشأت بمصر ، وحركة أبي الأعلى المودودي [ ص: 143 ] بباكستان ، للحركات الإسلامية في أكثر من بلد إسلامي. وفي الأثر السلبي الذي امتد إلى أكثر البلاد الإسلامية من سقوط الخلافة الإسلامية بتركيا ، وقيام الدولة العلمانية المتغربة بها. ولا يفهم الواقع الإسلامي الفهم الصحيح بإسقاط هـذا العنصر أو التغافل عنه؛ لأن في ذلك إسقاطا لعامل من عوامل الأحداث في انتقالها وتفاعلها.
ومن تلك العناصر أيضا الحس الحضاري للأمة الإسلامية. فالمسلمون ينتمون تاريخيا إلى حضارة كان لها ذات يوم شأن عالمي، طورت به المسيرة الحضارية للإنسان في شتى المجالات. وهي حضارة ذات خصوصيات متميزة، مستمدة من خصوصيات العقيدة الإسلامية، وبهذا التميز انطبعت الحضارة الإسلامية بعمق في حياة المسلمين، حتى إنها لما آلت دورتها إلى التناهي في العطاء العلمي والمادي، بقيت حاضرة في مستوى الوجدان الجمعي للمسلمين. فالمسلمون ا ليوم وإن كانوا تبعا للحضارة السائدة، وهي الحضارة الغربية، إلا أن في نفوسهم وعقولهم أيضا يقوم حس حضاري، يمتد إلى حضارتهم السالفة المتميزة.
ويمثل هـذا الحس الحضاري عنصرا مهما في الواقع الإسلامي؛ ذلك لأنه يمثل قوة مخزونة للتقبل الحضاري على الأسس الإسلامية، وهي قوة يكون لها بالتأكيد دور مهم في تنزيل صيغ [ ص: 144 ] لمشاريع حضارية إسلامية، حيث تصادف هـذه الصيغ مناخا نفسيا يتلاءم معها لعهد سابق بصيغ من جنسها، فيسهل تقبلها وإنجازها. وعلى العكس من ذلك فإن أية صيغ حضارية، تتقوم بإيديولوجية غير إسلامية، يكون موقعها من النفوس موقع الغربة في الحقيقة، وإن فرض التيار الحضاري العام تبنيها في الظاهر. ولعل هـذا الأمر من أهم الأسباب في فشل المسلمين إلى حد الآن في أن يبرزوا في جانب من جوانب الحضارة الغربية السائدة؛ إنها حضارة مخالفة في روحها العامة للروح الحضارية المستكنة في نفوسهم.
ولا يخفى أن هـذا التقبل الحضاري، الذي يصاحب المسلمين بترسب الإحساس الحضاري في نفوسهم، يمثل عاملا نفسيا مهما في تقويم ما انحرف من حياتهم عن سمت الدين، حيث يستغل ذلك التقبل في صياغة النمط المواتي له، تأصيلا على الحقيقة الدينية، فيأخذ طريقه إلى الإنجاز بيسر، وذلك يصح في المظاهر المادية، كما يصح في المظاهر المعنوية، على حد سواء، ومن ثمة يكون الوقوف على هـذا العنصر في سبيل فهم الواقع الإسلامي أمرا ضروريا لتسديد ذلك الفهم، وتسديد ما ينبني عليه من خطط التدين.
وكما جر التاريخ من ا لعناصر الفاعلة في واقع الأمة الإسلامية ما هـو إيجابي كالمثالين الآنفين، فإنه جر أيضا عناصر أخرى سلبية، تولدت في عهود الإنحطاط، واستصحبها المسلمون إلى [ ص: 145 ] هذا العهد، ولا تزال تفعل في تصاريف حياتهم فكرا وسلوكا، وتؤثر في واقعهم الجاري.
ولعل من أبرز هـذه العناصر السلبية، التي جرها التاريخ، ضعف التمثل لقانون السببية، في الثقافة العامة للمسلمين. فقد فشا في الأمة الإسلامية، منذ بداية عهد الانحطاط، اختلال في الإيمان بمبدأ السببية، الذي به الترابط العلي بين الموجودات، وانعكس هـذا الاختلال على أسلوب التفكير، فداخلته الأوهام، وقصر عن استكشاف الحقيقة الكونية، المبنية على سنة السببية، كما انعكس على السلوك، فداخله التواكل، وقصر عن ا لتعمير في الأرض. ومهما كانت الأسباب في هـذا الاختلال، من حيث يذكر أن شيوع التصوف يعد أهمها، فإنه ظل مستصحبا ليشكل اليوم عنصرا من عناصر الواقع الإسلامي، يسهم إلى حد كبير في تكريس مظاهر كثيرة من الحياد عن القبلة الإسلامية، في أغراض التعمير المادي على وجه الخصوص.
وكذلك فقد جر التاريخ منذ بداية الانحطاط كلالة، استصحبها المسلمون تمثلت في فتور الفعالية، والقصور عن استثمار الإمكانات المتاحة، إلى آخر مداها في الإنجاز: إما عجزا عن الأداء أو ركونا إلى الدعة. ولعل من أهم أسباب هـذا العنصر ضمور عامل التعبئة النفسية للفعل الحضاري، فقد ظلت حرارة الإيمان، واستشعار الرسالة الملقاة على عاتق المسلم إزاء البشرية، تصنع [ ص: 146 ] عامل تعبئة قويا للمسلمين، يحفز قواهم، ليدفعها إلى أقصى طاقتها في الفعالية، فانطلقوا ينجزون الكثير في الوقت القليل. فلما تراخى الزمن، وغشيت أسباب أخرى، ضمر عامل التعبئة، فضعفت الفعالية إلى حد كبير، وهو الوضع الواقع الآن، سواء نظرت إلى المسلمين أفرادا، أو نظرت إليهم جماعات ودولا، فقد أوقعتهم الكلالة في الكثير من المواقع الضالة الفاسقة عن الدين. وإن فهم هـذا العنصر يعتبر أساسا من أسس الفهم الشامل للواقع الإسلامي.
لقد عرضنا مثالين إيجابيين، وآخرين سلبيين، من العناصر الفاعلة في الواقع الإسلامي، مما جره التاريخ في تراكم أحداثه، وهذه العناصر وغيرها مما لم نذكره من نوعها تعبر عن الجذور التاريخية لواقع المسلمين، فلا يمكن استيعاب هـذا ا لواقع والنفاذ إلى حقيقته، إلا باستيعاب جذوره، التي لها دور الفعل فيه، كالشجرة لا يمكن فهم ما يظهر على أوراقها وثمارها من عوارض النضارة أو الاعتلال، إلا باستيعاب ما يعتري جذورها من الأغذية والآفات، فترسم على أساسها خطة علاجها وتزكية ثمارها.
ج - عامل الحضارة الغربية:
لقد سادت الحضارة الغربية اليوم، حتى لم يبق مجتمع من المجتمعات الإنسانية إلا لها عليه سلطان بوجه من الوجوه. وثمة [ ص: 147 ] مجتمعات لم تكن في التاريخ ذات حضارة نامية متميزة، فتلك تقبلت الحضارة الغربية ابتداء، وانساقت في دائرتها دونما صراع بين كسبها القديم وبين الحضارة الوافدة، إذ لم يكن ذلك الكسب على قدر الصراع. إلا أن المجتمع الإسلامي وهو سليل حضارة تليدة متميزة، كانت ذات يوم حضارة عالمية، لما وفدت عليه الحضارة الغربية، حدث فيه صراع بين الحضارة الغربية وبين مستصحبات حضارته الآفلة. وقد كان لهذا الصراع آثار فاعلة في واقع المسلمين الراهن، وهي آثار متأتية من لقاء صدامي بين حضارة شاملة، تنبثق من خلفية إيديولوجية مادية وبين بقايا من حضارة شاملة أيضا تنبثق من خلفية إيديولوجية عقدية دينية. فنشأ من ذلك اللقاء الصدامي غلبة من قبل الحضارة الغربية الأقوى، ورد فعل متوتر من قبل بقايا الحضارة الإسلامية الآفلة، ومن تلك الغلبة ورد الفعل المتوتر نشأ عامل من العوامل المهمة المؤثرة في الواقع الإسلامي، الفاعلة في أحداثه.
ويتفرع هـذا العامل إلى عدة فروع، تعد كلها آثارا لهجمة الحضارة الغربية على العالم الإسلامي. ولعل من أهم تلك الفروع فعالية في توجيه الواقع وصنع الأحداث شيوع روح الانهزامية في نفوس المسلمين، وفشو النزعة الاستهلاكية فيهم، والرفض المتوتر لجملة الحضارة الغربية من قبل بعض المسلمين. [ ص: 148 ]
أما روح الانهزامية فإنها شاعت في نفوس الكثير من المسلمين، لما بهرتهم المنجزات الحضارية الغربية في وجهها المادي على وجه الخصوص، فوقع في النفوس أن مفتاح الخير، ومفتاح الحق، بيد هـذه الحضارة وأهلها، بما كسبوا من حقائق العلم، ومن وسائل الرفاه، ومن أسباب الغلبة. ولما قورن ذلك كله بوضع المسلمين في تخلفه العلمي والمادي، أفرزت تلك المقارنة شعورا بالانهزام والمغلوبية، وسرى هـذا الشعور في الناس بوعي، وبغير وعي، حتى أصبح حالا من أحوال المسلمين، يوجه الكثير من مواقفهم وتصرفاتهم، ويكيف الكثير من نظمهم وأوضاعهم.
وظهر ذلك الشعور الانهزامي، في التقليد لأهل حضارة الغرب تقليدا تجاوز محاولات التشبه بهم في استثمار منجزاتهم المادية، إلى التشبه بهم في حياتهم الثقافية العامة: أساليب تفكير، وروابط اجتماعية، وعادات وتقاليد، وقوانين وتشريعات، حتى غدا المجتمع الإسلامي في كثير من جوانبه كالنسخة الرديئة من المجتمع الغربي. ولما كانت الحضارة الغربية المقلدة تنبثق من فلسفة مادية مناقضة للعقيدة الإسلامية، التي لا تزال تعمر أذهان المسلمين على نحو من الأنحاء، فإن هـذا التقليد اتصف أيضا بالقلق والاضطراب والتوتر، لتمزقه بين إيديولوجيتين متناقضتين: مادية ينبني عليها الأنموذج المقلد، وإسلامية تعمر ذهن المسلم المقلد. وهذا التقليد المتوتر الناشئ عن روح الانهزامية، كان مؤديا لانحرافات كثيرة عن الدين في مظاهر مختلفة من الحياة. [ ص: 149 ]
وأما النزعة الاستهلاكية فإنها ناشئة عن الإغراءات الأخاذة التي تمارسها وسائل الإنتاج الصناعي الغربي، فيما تصنعه من معدات الرفاه المتنوعة، وما تبذله من جهود في الدعاية لها انطلاقا في ذلك كله من فلسفة الربح والمتعة، التي بنيت عليها العقلية الغربية بأكملها.
لقد أدت هـذه السياسة الاستهلاكية، التي تغلغلت في العالم الإسلامي، إلى نشوء شراهة فظيعة للاستهلاك الشامل في جميع مرافق الحياة، وصارت النفوس لاهثة وراء رفاهية المأكل والملبس والمسكن والمركب، وأصبح ذلك حالا للمسلمين من أهل المدن، ومن الطبقات الثرية والمتوسطة، حتى غدت النفوس ضعيفة بشراهة الاستهلاك، وأضحى لديها استعداد لركوب كل المراكب في سبيل إشباع تلك الشراهة، ومن ثمة انزلق كثير إلى مخالفات لمقتضيات الدين، ليس على سبيل مخالفة السلوك فحسب، ولكن بالإتيان على أصل التعاليم بالنقض، والتنظير لذلك مذهبيا، استجابة لدواعي الاستهلاك المستفحلة.
وقد أدت هـذه النزعة الاستهلاكية إلى صفة من الميوعة، المتمثلة في الركون إلى الانقياد، لمن بيدهم ضمانات لتوفير المستهلكات في رتابة واستمرار. فورث ذلك ضعفا في الشخصية، وغدت المواقف في الأقوال والأفعال لا توزن بميزان الحق، الذي يجب أن يكون، بل بميزان ما يضمن استمرارية الاستهلاك، إرضاء لمن يوفرها، وسرى ذلك في أحوال الأفراد، كما سرى في أحوال الأنظمة الحاكمة في علاقاتها الدولية. [ ص: 150 ]
على أن الحضارة الغربية التي صدمت العالم الإسلامي بمنطلقاتها الإيديولوجية المخالفة لعقيدته، قد كان لها وقع آخر، غير الوقع الذي كان به الانسياق والانهزام؛ ذلك أن شقا من المسلمين هـالهم التناقض بين هـذه الحضارة في كسبها الثقافي خاصة، وبين الروح الإسلامية، وصدم كبرياءهم الديني النزعة التسلطية لحملة هـذه الحضارة استعمارا واستكبارا (وإمبريالية ) . فوقفوا من هـذه الحضارة بسبب ذلك موقف الرفض المبدئي المتوتر، الذي تجاوز الجوانب الثقافية والفكرية والأدبية، مما تبرز فيه بوضوح النزعة الإيديولوجية، إلى غيرها من الكسب العلمي والتقني المتمثل في العلوم التجريبية، وفي المرافق المدنية، التي تتصف بالموضوعية إلى حد كبير، والتي تعتبر كسبا إنسانيا عاما في جانب اكتشاف الحقيقة الكونية تتداوله الحضارات والمجتمعات، وتتعهده بالتنمية على مر العصور.
ومن هـذا الموقف الرافض وجدت جماعات إسلامية منتظمة، كما وجدت تيارات، تجمع العديد من الأفراد، تقف كلها موقف المجانبة لاستخدام المنجزات الحضارية ذات الطابع المدني، في صياغة الحلول الإسلامية لمعالجة الأوضاع المستجدة في حياة المسلمين، وتقويم ما اعوج منها عن السمت الديني المستقيم. وإذا تجاوزنا في التمثيل لذلك ما يروج على سبيل الدعاية المغرضة من رفض بعض المسلمين لوسائل في الإعلام الحديث، ووسائل في النقل، وغيرها من مكتسبات الحضارة، فإننا نجد بعض المسلمين يتحرزون شديد التحرز من استخدام وسائل التنظيم والإدارة، ووسائل التطبيب [ ص: 151 ] والصيدلة، وطرق الاستحضار والاستحفاظ في الأطعمة والأشربة، وغير ذلك مما يمكن أن تتبين فيه المصلحة، وفق الشروط الإسلامية، ولكنه يجري على أساس مكتسبات الحضارة الغربية. وهذا التحرز الذي يتراوح بين الرفض الجلي، وبين الحذر المفرط، يفوت في كثير من الأحيان فرصا مهمة في تنزيل الحقيقة الدينية على الواقع الراهن للمسلمين، ومن ثمة فإنه يمثل أحد العناصر الفاعلة في هـذا الواقع.
إن العوامل الثلاثة التي ذكرناها آنفا تعتبر من أهم العوامل الفاعلة في واقع المسلمين اليوم، تشكيلا للبنية الفكرية والنفسية، ودفعا للأحداث الفردية والاجتماعية ولذلك فإنه لا مناص للناظر في الواقع الإسلامي نظر تفهم واستيعاب من أن تكون هـذه العوامل من أدوات الرصد والتحليل لأجل الفهم، وإسقاطها والاستهانة بها يوقع لا محالة في فهم سطحي، لا ينفذ إلى علل الأحداث وأسبابها، ويكون بالتالي مزلقا في سبيل التقويم الديني لواقع المسلمين؛ لأن هـذا التقويم يرتكز، من بين ما يرتكز على فهم الواقع بصفة أساسية كما بيناه. [ ص: 152 ]