التوازن بين ما هـو زينة وما هـو وظيفي
لا يعني ما أسلفنا أن على المهندس أن يجعل من نفسه مطية لتحقيق عالم أشياء سريع في خطاه.. فيحقق للمجتمع كل ما يريد، من غير أن يحمل في أعماقه غربالا حضاريا يساعده على عمليات الانتقاء، والاصطفاء، فيفرق بين ما هـو زينة، وما هـو وظيفي، ويميز بينهما، فلا يحرص على الأولى أكثر من حرصه على الثانية.
لنأخذ لهذا مثلا في الهندسة المعمارية حيث يحرص على التصميم الأمثل؛ من حيث تحقيق الجوانب الجمالية والحضارية. وإذا كان له أن يبرز في تصميمه الناحية الزخرفية التي تحقق أهدافا جمالية فإننا نطالبه بالحرص نفسه على الجوانب الوظيفة والعملية التي تؤكد خصائص مجتمعه. بمعنى أنه يؤكد على الاستخدام الحضاري الأمثل للتصميم، بما يتمشى مع طبائع الأشياء. وإلا فما معنى أن يصمم مسجدا ـ مثلا ـ على أحدث طراز، وينسى أن يحقق وظيفته الأساسية، وما يخدمها من أماكن مريحة ومجهزة للوضوء مثلا. [ ص: 42 ]
فالمهندس يجب أن يحمل في قلبه رؤية اجتماعية واضحة، يميز بها بين الغث والسمين، ويحرص من خلالها على الانتقال بأمته من حالها التكنولوجي المتخلف إلى حال أحسن وأرقى.
بإيجاز نقول: إن دور المهندس في صياغة الحياة دور أساسي وهام، وليس أدل على ذلك مما كتب ابن خلدون في مقدمته من أن أشياخه كانوا يعلمونهم الهندسة لأن الهندسة كالصابون، يغسل العقل من الأوساخ وينقيه من الأضرار. ولقد قيل: أن أفلاطون كتب يافطة على باب داره: " من لم يكن مهندسا فلا يدخل بيتنا " .
إن ابن خلدون وأفلاطون يعلقان هـنا على المنهج التحليلي الذي يحمله المهندس في عقله، فلا جدال بأن دراسة الهندسة دراسة تفيد العقل، وتعطيه قدرة رائعة على مواجهة المشاكل الجدية.
ومن هـنا فان للمهندس أدوارا متعددة:
- فهو الذي يحقق للمجتمع رغباته في عالم الأشياء.
- وهو الذي يصون هـذا العالم ويطوره ويقلده ثم يبدعه خلقا آخر.
- وهو بحكم العقلية التحليلية التي تعيش في جنباته، قادر على المشاركة في صياغة حياة عقلانية معاصرة.
- ثم إنه بحكم عمله الإنشائي، تبهره كل يوم آيات الله في نفسه، والكون، والحياة فيشعر بالجمال والكمال، وينساب ذلك كله في إشارات روحية إبداعية يغني بها حياة أمته. [ ص: 43 ]