الحركات الإسلامية في السنغال في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر هـناك حقيقة لا مناص من ذكرها: وهي أن الإسلام لم يتم انتشاره في السنغال بفعل أعمال عسكرية، وإنما عم هـذا البلد بفضل تضافر عدة عوامل سبقت الإشارة إلى بعضها، ولا ينبغي لأي دارس بجدية أن يعبأ بادعاء ( ديشام ) [DESCHAmPS ] القائل: " إن الإسلام لجأ أحيانا إلى الغزو الوحشي -كذا- وقد جر تعصب وكبرياء الفاتحين إلى احتقار الوثنيين وإخلاء سبيلهم ليعيشوا، وتارة إلى استعبادهم، وحينا آخر إلى ترك الخيار لهم بين الإسلام والموت " [1] .
على أن التاريخ يفند هـذه المزاعم بشهادة المستعمرين أنفسهم الذين اضطروا إلى الاعتراف بأهمية وعدالة الحركات الإسلامية " أعتقد- يقول " لا براد " - أن الثورة الماضية باسم الحضارة الإسلامية ضد الطغيان الأعمى ووحشية " تيدو " ستكون مقبولة لدى شعب " ولوف " الخاضع للحيف " [2] كانت هـذه الوحشية التي يتحدث عنها " بيني لا براد " أحد العوامل التي تسببت في قيام ثورات المسلمين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين.
ومن قدر الله عز وجل أن تلك الحركات الإسلامية على اختلاف أرضية انطلاقاتها ظهرت في فترات تاريخية متقاربة نسبيا، واستغرقت مدى قرن [ ص: 72 ] ونصف القرن، وبرزت جميعها بعد انحلال وانقراض الإمبراطوريات: غانا ومالي وسنغاي بغربي أفريقيا، وبعد انقطاع الصلات بين ضفتي الصحراء الكبرى [3] إثر اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، وتحول النشاط التجاري عن بعض أطراف البحر الأبيض المتوسط، مما ساهم إلى حد ما في زعزعة دول شمالي أفريقيا، ونجم عن هـذا الوضع انصراف الأنظار عن ذهب ( بلاد السودان ) أي: غربي أفريقيا.
ومما زاد الطين بلة أن تزامن ذلك كله مع سقوط مدينة " تمبكتو " الشهيرة بالعلم على يد القائد العسكري المغربي " جودر باشا " والباشوات الذين حكموا هـذه المدينة من بعده، وكانت سيطرتهم على " تمبكتو " عامل تقهقر حضاري ، وتدهور اقتصادي ، وتأخر ثقافي ، لما كان لـ " تمبكتو " من مركز إشعاعي هـام، ولكونها هـمزة وصل بين شمالي أفريقيا وغربيها؛ كما كانت محط رجال العلم، وموطن علماء كبار من سود وبيض، ومنار هـداية يقصدها طلبة العلم من كل حدب وصوب.
ولما استولى عليها " جودر " ورجاله حولوها إلى شبح مخيف، يعيث فيها العسكر فسادا، ويفشون فيها الفجور؛ الأمر الذي جعل الحركة العلمية والثقافية تتردى وتتدني، واصطدمت طغمة الباشا " جودر " [ ص: 73 ] بعلماء المدينة فأبعدت بعضهم
[4] ، واضطهدت بعضهم الآخر، الأمر الذي أدى إلى اتساع رقعة الانقطاع بين شمالي وجنوبي الصحراء الكبرى؛ وكان لذلك كله انعكاسات وانتكاسات على الساحة الإسلامية في السنغال ، ثم تزامن ظهور المغاربة في مملكة سنغاي مع تقهقر الدعوة الإسلامية بغربي القارة الأفريقية، لأن هـذه الدولة كانت قاعدة قوية لنشر الإسلام حيث نشطت فيها الحركة الإسلامية تحت رعايتها.
أضف إلى ما سبق: تحول الأنظار عن بعض مناطق البحر الأبيض المتوسط بفعل تصاعد القوى الصناعية الناهضة بأوروبا ؛ التي أصبحت تتطلع إلى كشف أسواق جديدة توزع فيها منتجاتها الصناعية، ولتضمن توفر المواد الخام لمصانعها، وفي الوقت ذاته كانت ترنو بنهم إلى أراضي ما وراء البحار للاستيلاء عليها، واستغلال ثرواتها الطبيعية، واستعباد شعوبها.
وكانت مملكة سنغاي تستقطب شعوبا عديدة من غربي أفريقيا، وتسيطر على أراض شاسعة، وبعد انقراضها تفككت إلى إمارات ومشيخات صغيرة لا يضم بعضها إلا رقعة من الأرض يسيرة، فتحولت غالبية حكوماتها إلى أنظمة استبدادية ، تمارس ضد شعوبها أبشع صور [ ص: 74 ] الطغيان ، فحينئذ ازداد شعورالمسلمين بالظلم، ونما إحساسهم بالاضطهاد الذي أصبحوا موضعا له، فقاموا بمناهضته، وزاد من مقاومتهم له أنهم ينتمون إلى عالم يغاير عالم الأرواحية والاستبداد ، وكان لا بد والحالة هـذه من تغيير الوضع لصالح الجماعة الإسلامية.
ويسوغ تلخيص أهداف وأسباب قيام الحركات الإسلامية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين فيما يلي:
· حماية المسلمين من ظلم وغطرسة " تيدو " .
· صيانة استقلال البلاد والحيلولة دون المساس بسيادتها.
· محاولة إعادة الوحدات السياسية على غرار مملكتي مالي ، وسنغاي .
· إعادة الكرامة الإنسانية لإنسان هـذه المنطقة دون نظر إلى أصوله ومعتقداته بعد أن كانت كرامته مداسة من قبل نظام " تيدو " .
وكانت الحركة الإسلامية هـذه على وشك إنجاز أهدافها لولا أن عاجلها الاستعمار الصليبي الغربي، وفوت على الإسلام فرصة ذهبية للانتشار الكلي في غربي أفريقيا، ولو انتشر الدين الإسلامي على يد سلطة زمنية تسهر عليه وترعاه لما عرف ما يعرفه النوم من تحريف وتشويه؛ لأن وضعه الحالي ناجم عن كونه انتشر في ظل أنظمة كانت تجهد نفسها للإجهاز عليه، وعندما استعصى ذلك عليها، رحبت بكل ردة إلى الأرواحية ، أو أي تحريف يموه حقيقته وينحرف بالمسلم عنه.
بهدف تصحيح الأوضاع قامت الحركة الإسلامية في ( فوتا تورو ) وتأسست إثرها الإمامة ما بين عامي 1776م و 1881م.
وخليق بنا أن نبين أن من مزايا هـذا النظام بعده عن الاستبداد، حيث كان يشترط فيمن يتقلد مهام الإمامة " ألماميا " أن تتوفر فيه صفات: العلم [ ص: 75 ] والاستقامة والتقوى ، والورع ، فضلا عن أن المنصب غير وراثي؛ يتطاول إليه كل من اجتمعت فيه شروط الإمامة .
لا غرو حينئذ أن تحقق الإمامة في " فوتا " إنجازات في ميادين شتى: فقد حرمت النخاسة في أراضيها رفض الإمام ( ملك بول ) هـدايا الشركة، محرما بيع رعاياه، ومانعا مرور قوافل العبيد [5] وشجعت التعليم، واعتنت بمجالس العلم، وابتنت المساجد، وابتعثت طلبة العلم إلى موريتانيا المجاورة ... ولم تكتف الإمامة بنشر العقيدة الإسلامية في " فوتا " فحسب بل عملت على توسيع دائرة الإسلام إلى ما وراء حدودها السياسية حيث انطلق الدعاة نحو الأقاليم المجاورة لدى شعبي " ولوف وسيرير " فأحرزوا نجاحا أيما نجاح.
وأعطت " فوتا " السنغال عددا من كبار رجالات السياسة والفكر والحرب من الطراز الأول، أمثال : الحاج عمر الفوتي ، والشيخ مابا جاخوبا ، والحاج مالك سي ، والشيخ أحمد بامباو ، والشيخ موسى كامارا ، وغيرهم ...