الخلاف في عهد التابعين وآدابه
كان من سياسات أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ألا يسمح للصحابة من المهاجرين والأنصار بالإقامة خارج المدينة، فهم في غير المدينة - دائما - مسافرون يذهبون لغزو أو تعليم أو ولاية أو قضاء أو غير ذلك من المهام، وتبقى المدينة المستقر والمقام لهم بعد ذلك، فهي [ ص: 73 ] حاضرة الدولة وقاعدة الخلافة، وهم حملة رسالة الإسلام ورعيله الأول فيجب أن يكونوا قريبين من الخليفة، أعوانا له على أعبائه، مشاركين إياه في شئون الأمة كلها.
فلما ولي عثمان رضي الله عنه لم ير بأسا في أن يسمح لكل من أراد من الصحابة مغادرة المدينة أو يستوطن حيث يشاء من ديار الإسلام، فتفرق فقهاء الصحابة وقراؤهم في الأمصار التي فتحت، والبلدان التي مصرت، فاستوطن المصرين (البصرة والكوفة ) ما يزيد عن ثلاثمائة من الصحابة، وأقام في مصر والشام عدد منهم.
ولقد نقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع من حنين ترك في المدينة اثني عشر ألفا من الصحابة، بقي منهم فيها حتى وفاته عشرة آلاف، وتفرق ألفان منهم في الأمصار [1] .
وقد حمل علم وفقه الفقهاء والقراء من الصحابة بعدهم من تلقى عنهم من التابعين، أمثال: سعيد بن المسيب [2]
الذي يعتبر راوية عمر وحامل فقهه في المدينة، وعطاء بن أبي رباح في مكة ، وطاوس في اليمن ، ويحيى بن أبي كثير في اليمامة ، والحسن في البصرة ، ومكحول في الشام ، وعطاء في خراسان ، وعلقمة في الكوفة وغيرهم... وهؤلاء كانوا كثيرا ما يمارسون الفتوى والاجتهاد بمشهد [ ص: 74 ] من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تلقوا العلم والفقه عنهم، وتربوا على أيديهم، وتأدبوا بآدابهم، وتأثروا بمناهجهم في الاستنباط، فما خرجوا عن آداب الصحابة في الاختلاف عندما اختلفوا، ولا جاوزوا تلك السيرة، وهؤلاء هـم فقهاء الجمهور الذين تأثرت بهم جماهير الأمة، وعنهم تلقوا الفقه، ولعل مما يوضح ذلك الأدب هـاتان المناظرتان في الدية.
أخرج عبد الرزاق [3]
من طريق الشعبي قال: جاء رجل إلى شريح ، فسأله عن دية الأصابع، فقال: في كل أصبع عشرة إبل. فقال الرجل: سبحان الله... هـذه وهذه سواء (مشيرا إلى الإبهام والخنصر ) فقال شريح: ويحك، إن السنة منعت القياس، اتبع ولا تبتدع.
وأخرج مالك في الموطأ عن ربيعة قال: سألت سعيد بن المسيب . كم في أصبع المرأة؟ قال: عشرة من الإبل. قلت: ففي أصبعين؟ قال عشرون. قلت ففي ثلاث؟ قال: ثلاثون. قلت ففي أربع؟ قال عشرون. قلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها (أي: ديتها ) فقال سعيد: أعراقي أنت؟ فقال ربيعة: بل عالم متثبت. أو جاهل متعلم. قال سعيد: هـي السنة يا ابن أخي. [4] .
وينتهي الأمر عند هـذا الحد دون أن يحتد طرف ويتهم الآخر بالجهل، أو يزعم لنفسه إصابة الحق وما يراه غيره الباطل، فمذهب سعيد [ ص: 75 ] والحجازيين أن دية المرأة كدية الرجل حتى تبلغ الثلث من ديته، فما زاد عن الثلث تكون فيه ديتها نصف دية الرجل، ذلك لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ( عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها ) [5]
. ومذهب العراقيين أن ديتها نصف دية الرجل ابتداء.
وناظر الشعبي (عامر بن شراحيل الكوفي ) رجلا في القياس، فقال له: أرأيت لو قتل الأحنف بن قيس وقتل معه طفل صغير أكانت ديتهما واحدة أم يفضل الأحنف لعقله وحلمه؟ قال الرجل: بل سواء، قال: فليس القياس بشيء.
والتقى الأوزاعي بأبي حنيفة في مكة ، فقال الأوزاعي: ما بالكم لا ترفعون أيديكم عند الركوع والرفع منه؟ فقال أبو حنيفة: لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء. فقال الأوزاعي: كيف وقد حدثني الزهري عن سالم عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وعند الركوع وعند الرفع منه.
فقال أبو حنيفة: حدثنا حماد عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة ولا يعود لشيء من ذلك.
فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري عن سالم، عن أبيه وتقول: حدثني حماد عن إبراهيم؟
فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري عن سالم، عن أبيه وتقول: حدثني حماد عن إبراهيم؟
فقال أبو حنيفة: كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من [ ص: 76 ] سالم، وعلقمة ليس بدون ابن عمر، وإن كان لابن عمر فضل صحبة فالأسود له فضل كثير، وعبد الله هـو عبد الله، فسكت الأوزاعي. [6] .
ونقل عن أبي حنيفة أنه قال: (هذا الذي نحن فيه رأي لا نجبر أحدا عليه ولا نقول: يجب على أحد قبوله بكراهية فمن كان عنده شيء أحسن منه فليأت به. ) [7] .
فالجميع متبعون، فحين تصح السنة لا يخالفها أحد وإذا حدث فإنه اختلاف في فهمها، يسلم كل للآخر ما يفهمه، ما دام اللفظ يحتمله، ولا شيء من الأدلة الصحيحة عند الفريقين يعارضه.