( ج ) منهـج البحث الحسي – التجـريبي:
ولكن لا الكشف عن السببية ولا القانونية التاريخية يعدل الكسب المعرفي القيم الذي أحرزه العقل المسلم خصوصا، والعقل البشرى عموما والذي تمثل بمنهج البحث الحسي -التجريبي- الذي كشف النقاب عنه، ونظمه، وأكده، كتاب الله..
لقد دعا القرآن الناس إلى التبصر بحقيقة وجودهم، وارتباطاتهم الكونية عن طريق " النظر الحسي " إلى ما حولهم ابتداء من مواقع أقدامهم وانتهاء بآفاق النفس والكون، وأعطى للحواس مسئوليتها الكبيرة عن كل خطوة يخطوها الإنسان المسلم في مجال البحث والنظر والتأمل والمعرفة والتجريب قال له:
( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) ( الإسراء: 36) ، وناداه أن يمعن النظر إلى ما حوله.. إلى طعامه : ( أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا ) ( عبس 24 – 31 ) .. إلى خلقه: ( فلينظر الإنسان مم خلق ) ( الطارق : 5 ) .. إلى الملكوت: [ ص: 56 ]
( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ) ( الأعراف: 185 ) .. إلى التاريخ وحركة الإنسان في الأرض: ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة ) ( غافر: 82 ) .. إلى خلائق الله. ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) ؟ ( الغاشية: 17 ) .. إلى آياته المنبثة في كل مكان: ( انظر كيف نبين لهم الآيات ) ( المائدة: 75 ) .. إلى النواميس الاجتماعية: ( انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض ) ( الإسراء : 21 ) .. إلى الطبيعة وهي تنبعث من قلب الفناء برحمة من الله ومقدرة: ( فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها ) ( الروم: 50 ) .. إلى الأثمار وهي تتدلى من غصون الأشجار : ( انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ) ( الأنعام: 99 ) .. إلى الحياة الأولى كيف بدأت وكيف نمت وارتقت: ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ) ( العنكبوت: 20 ) .. ودعاه أن يحرك (سمعه) باتجاه الأصوات لكي يعرف ويميز، فيأخذ أو يرفض، فمن الاختيار البصير يبعث الإيمان: [ ص: 57 ]
( ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ) ( الأنفال: 21 ) .
وانتقل القرآن خطوة أخرى، وسألهم أن يحركوا " بصائرهم " تلك التي تستقبل في كل لحظة محركات حسية سمعية وبصرية ولمسية... لا حصر لها ومن ثم تتحمل البصيرة مسئوليتها في تنسيق هـذه المدركات، وتمحيصها وموازنتها وفرزها من أجل الوصول إلى " الحق " الذي تقوم عليه وحده نواميس الكون والخليقة: ( فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ) ( الأنفال: 104 ) .. إن العقل والحواس جميعا مسئولة لا تنفرد إحداها عن الأخريات في تحمل تبعة البحث والتمحيص والاختيار.. والإنسان مبتلى بهذه المسئولية لأنه من طينة أخرى غير طينة الأنعام: ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ) ( الإنسان: 2 ) .
ومن ثم تتوالى الآيات تؤكد مرة تلو المرة على أن السمع والبصر والفؤاد جميعا هـي التي تعطي للحياة الإنسانية قيمتها وتفردها، وأن الإنسان بتحريكه هـذه القوى والطاقات بفتحه هـذه النوافذ على مصراعيها باستغلاله قدراته الفذه حتى النهاية سيصل قمة انتصاره العلمي والديني على السواء؛ لأن هـذه الانتصارات ستبوئه مركزه المسئول سيدا على العالمين وخليفة، الله في الأرض، وأنه بتمجيد [ ص: 58 ] هـذه الطاقات، وقفل نوافذها، وسحب الستائر والأغشية عليها، يكون قد اختار بنفسه المنزلة الدنيا التي ما أرادها له الله يوم منحه نعمة السمع والبصر والفؤاد.. منزلة البهائم والأنعام: ( أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ) ( محمد: 23)
وحشد آخر من الآيات بلغ ما يقرب الخمسين، حث على تحريك " العقل " ، المفتاح الذي منحه الله بني آدم، والذي يتوجب اعتماده لكي تمضي الكشوف والمعطيات التجريبية إلى غايتها: ( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ) ( البقرة: 242) ..
وآيات أخرى دعت الإنسان إلى " التفكير " العميق المتبصر المسئول بكل ما يحيط به من ظواهر وأشياء وطاقات وموجودات: ( قل هـل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون ) ؟ ( الأنعام: 50 )
وما يقال عن " التفكر " يمكن أن يقال عن " التفقه " وهي خطوة عقلية أبعد مدى من التفكير تجعل الإنسان أكثر وعيا لما يحيط به، وأعمق إدراكا لأبعاد وجوده وعلائقه في الكون، كما تجعله متفتح البصيرة دوما، مستعدا للحوار المسئول إزاء كل ما يعرض له على صفحة العالم: ( فمال هـؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ) ؟ ( النساء:78)
وأكد القرآن على الأسلوب الذي يعتمد " البرهان " و " الحجة " و " الجدال الحسن " للوصول إلى النتائج الصحيحة القائمة على [ ص: 59 ] الاستقراء والمقارنة والموازنة والتمحيص استنادا إلى المعطيات الحسية الخارجية المتفق عليها، والقدرات العقلية التي تعرف كيف تتعامل مع هـذه المعطيات: ( تلك أمانيهم قل هـاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) ( البقرة: 111 ) .
هكذا يبدو العلم بمفهومه الواضح الشامل، فاعلية في غاية الأهمية في المجتمعات التي ترتضي الدين أو المهج الإلهي طريقه لها في الحياة.. ولا بد أن نضيف هـنا حقيقة أخرى غاية في الأهمية تلك هـي أن كلمة " العلم " وردت في القرآن الكريم مرارا كمصطلح على " الدين " نفسه الذي علمه الله أنبياءه عليهم السلام.. على النواميس التي يسير الله بها ملكوته العظيم.. على الحقائق الكبرى الموجودة عند الله في " أم الكتاب " وكإشارة إلى القيم الدينية التي نزلت من السماء في مقابلة الأهواء والظنون البشرية؛ ومن ثم يغدو العلم والدين سواء في لغة القرآن، إن كلمات الله سبحانه تعلمنا هـذه الحقيقة وتبصرنا بمواقع العلم والدين الفسيحة الممتدة المتداخلة كما أراد لها أن تكون، لا كما يريد لها الوضعيون الذين يسعون جهدهم للفصل بين الكلمتين:
ولا نصير ) ( ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ( البقرة: 120 ) .
( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ) ( آل عمران: 7 ) .
( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) ( النساء : 157 ) . [ ص: 60 ]
( قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ) ( الأحقاف:23 ) .
ولا يسعنا هـنا استعراض حل ما ورد من آيات في هـذا المجال، أو حتى الإشارة إليه، ويكفي أن نشير إلى أن كلمة علم بتصريفاتها المختلفة وردت في عدد من الآيات جاوز السبعمائة والخمسين.
ومن ثم فلا يتصورن أحد أن الإسلام ما جاء إلا لكي يؤكد في موقفه من العمل الحضاري على الجوانب الأخلاقية والروحية فحسب.. إننا بإزاء آيات عديدة تضع الجماعة البشرية المؤمنة في قلب العالم والطبيعة، وتدفعها إلى أن تبذل جهدها من أجل التنقيب عن السنن والنواميس في أعماق التربة وفي صميم العلاقات المادية بين الجزئيات والذرات.. إننا بإزاء حركة حضارية شاملة تربط بين مسألة الإيمان ومسألة الإبداع، والكشف بين التلقي عن الله، والتوغل قدما في مسالك الطبيعة ومنحنياتها وغوامضها... بين تحقيق مستوى روحي عال للإنسان على الأرض، وبين تسخير طاقات العالم لتحقيق الدرجة نفسها من التقدم على المستوى المادي.. ولم يفصل الإسلام -يوما- بين هـذا وذاك.. [ ص: 61 ]