[5] قـوات الجانبين وخسائرهم:
سقط قسم من المؤرخين العرب المسلمين المحدثين، وبينهم أسماء لامعة جدا وصلت إلى القمة في الشهرة في وهدة التشكيك بتعداد قوات الجانبين التي اشتبكت في المعارك عامة، وبتعداد الجانب العربي الإسلامي خاصة، إلا إذا حظي التعداد العربي الإسلامي بتزكية مصدر من المصادر الأجنبية مهما يكن ذلك المصدر الأجنبي تافها لا قيمة له من الناحية العلمية ولا وزن. [ ص: 41 ]
وهذا التشكيك يتم تسويغه باسم البحث العلمي، وغالبا ما يزرع الباحث الشك دون أن يبدي رأيه في تعداد قوات الجانبين، بل يترك الأمر مبهما بعد أن يسدل عليه ستارا من الدخان الكثيف.
ومن الغريب جدا أن يعزو المؤرخ العربي المسلم المشكك أمر التشكيك إلى نفسه، كأنه استنتجه ببحثه العلمي الخاص به الذي لم يسبقه إليه مؤرخ آخر، والواقع أنه نقله نقلا حرفيا من أحد المصادر الأجنبية بأمانة، دون أن يشير بأمانة أيضا إلى المصدر الذي نقل حرفيا منه التشكيك، كما تقتضي الأمانة العلمية في النقل.
وتعود إلى المصدر الأجنبي المنقول منه ذلك التشكيك، فيذهلك حقا أن مؤلفه الأجنبي عدو للعرب والمسلمين، كاره لتاريخهم العريق؛ لأنه يهودي أو منصر أو جاسوس، أكل قلبه الحقد على الفتوح العربية الإسلامية، وهو معني بهدم الفتوح والتهوين من شأنها وقيمتها؛ ليصل إلى هـدفه الحيوي، وهو التهوين من قدرة العرب أمة ومن أثر الإسلام في العرب دينا.
وما يقال عن التشكيك في تعداد قوات الجانبين، يقال عن التشكيك في تعداد خسائر الجانبين بالأرواح.
وتتلخص حجج الأجنبي في تشكيكه في تساؤله: كيف يمكن حصر عدد قوات الجانبين؟ وكيف يمكن إحصاؤها في الظروف الحربية الصعبة، وحصر القوات وإحصاؤها صعب في الظروف الاعتيادية؟ [ ص: 42 ]
وكيف يمكن إحصاء الخسائر بالأرواح في الحرب، وهي كر وفر، لا تستقر على قرار، ولا تعطي الوقت الكافي للإحصاء؟
وهدف الأجنبي الحاقد مفهوم، أما هـدف المؤرخ العربي المسلم الذي يستسلم للتشكيك المريب فغير مفهوم، إلا أن يكون الناقل جاهلا، يستورد تاريخ العرب والمسلمين من المصادر الأجنبية دون فهم ولا تمحيص.
أو يكون الناقل ملوث العقل بما قرأه في المصادر الأجنبية، فلوث بالعدوى عقول تلاميذه وطلابه في المؤسسات التعليمية وقرائه وسامعيه.
ولا ينبغي السكوت عن الجهل الذي أدى إلى تلوث عقول فلذات أكبادنا؛ التلاميذ والطلاب، وإخواننا الدارسين والسامعين العرب المسلمين.
إن القوات العربية الإسلامية التي كانت تشهد الحروب يسودها النظام الدقيق منذ مغادرة المقاتل بيته حتى يشتبك في القتال، ثم يعود إلى بيته سالما إذا وضعت الحرب أوزارها، أو يسقط شهيدا.
فهو لا يخرج وحده من بيته إلى ميدان القتال على انفراد، بل مع جماعة من إخوانه المجاهدين، وغالبا ما يكونون من عشيرته أو قبيلته أو قومه.
وللسيطرة على المقاتلين الذين غادروا ديارهم، وللتعاون الوثيق بينهم في حلهم وترحالهم، وقبل القتال وفي أثنائه وبعده يكون على كل عشرة مقاتلين عريف ، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب من عشيرة المقاتلين أو من قبيلتهم أو من قومهم. [ ص: 43 ]
ويمضي بناء القوات العربية الإسلامية الهرمي في تصاعده قدما، فيكون على كل عشرة نقباء أمير، هـو أمير الألف ( كردوس ) [1] ، وعلى كل عشرة أمراء أمير الجيش، وهو أمير عشرة آلاف فصاعدا، وهو قائد الجيش الذي يتولى قيادة جيش المسلمين في قطر من الأقطار أو إقليم من الأقاليم الإسلامية، ويكون عادة والي القطر أو الإقليم الذي يطلق عليه عادة لقب: الأمير.
وكل جزء من أجزاء الجيش، اعتبارا من العريف الذي يقود عشرة رجال، يتألف جنود ينتسبون إلى عشيرة واحدة أو قبيلة واحدة كعشيرة بني سعد من قبيلة بني تميم (مثلا) ، وقائدهم من رتبة عريف إلى أمير الألف يكون من العشيرة نفسها أو القبيلة نفسها، قدم على رجاله لتقواه واستقامته وشجاعته وإقدامه وكفايته وإخلاصه، فإذا كان من رؤساء العشائر أو رؤساء القبائل من يتسم بتلك السمات القيادية، فضل على غيره في قيادة قبلته، أما إذا لم يتسم بالسمات القيادية المطلوبة، فيفضل عليه غيره من أفراد عشيرته أو قبيلته، وكثيرا ما تبرز السمات القيادية للرجال في القتال، فتقدمهم أعمالهم وتلفت إليهم الأنظار، والقتال أهم محك لسمات الرجال القيادية.
والقادة بمختلف رتبهم ومناصبهم - عدا أمير الجيش - يعيشون في أيام السلام في بلد واحد مع رجالهم، فقد قسم المسلمون البلاد إلى أجناد في القواعد الإسلامية الرئيسة، وكان جند كل قاعدة ينقسم باعتبار العشائر [ ص: 44 ] والقبائل، فكانت القبائل (مثلا ) خمسة أقسام تسمى: الأخماس، يقيم في كل خمس منها قبيلة من القبائل العربية وهم: الأزد ، وتميم ، وبكر وعبد القيس ، وأهل العالية ، وهم أهل المدينة المقيمون، وكانوا من قريش وكنانة والأزد وبجيله وخثعم وقيس عيلان كلها ومزينة ، وكان على كل خمس أمير من أمراء تلك القبائل.
أما في أيام الحرب، فتبدأ مسيرة القادة مع رجالهم ابتداء من رحلتهم إلى ميدان القتال، فيكون اتصال القادة برجالهم في مرحلة مسير الاقتراب من القاعدة إلى الهدف، وفي المعسكرات في مراحل التنقل، وفي المعسكرات المتقدمة قبل نشوب القتال، وفي القتال، وبعده، وفي مسيرة العودة إلى الوطن.
ولا يمكن أن يكون الاتصال المباشر وثيقا بمثل هـذه الدرجة بين القائد ورجاله في أيام السلام والحرب معا، حتى في الجيوش الحديثة لكل الأمم بدون استثناء، وعلى هـذا يكون التعارف بينهم وثيقا إلى أبعد الحدود.
كما كان يجري إحصاء الجند وتسجيلهم بالأسماء في ديوان الجند الذي يطلق عليه: ( الديوان ) وبموجب هـذا الديوان يتقاضى الجند أعطياتهم ما داموا على قيد الحياة، فإذا قتلوا رقن قيدهم في الديوان، وهذا الديوان إحصاء دقيق للجند وهم أحياء، وإحصاء دقيق لهم إذا قتلوا، وطالما سمعنا القائد يقول: " بلغ ديواني مائة ألف " [2] وهكذا. [ ص: 45 ]
وقبل المعركة يستعرض القائد الجند، فيسأل عن رجل رجل، من هـو؟ وما هـي قبيلته، وعن حاله وسلاحه، فإذا مر الجندي بالقائد العام بحضور قائده المرءوس رمى بسهم في مكان معين ثم مضى إلى سبيله.
فإذا نشب القتال ثم انتهت المعركة استعرض القائد العام الجنود من جديد، فيأخذ كل جندي بعد استعراضه سهما واحدا، وبعد انتهاء العرض يبقى عدد من الأسهم في مكانها المعين لم يأخذها أحد، وهي بعدد القتلى الذين سقطوا في المعركة من الشهداء.
وهذا الاستعراض إحصاء بالغ الدقة لتعداد الجنود قبل المعركة، وتعدادهم بعد المعركة، وتعداد خسائرهم من جراء القتال، هـذا بالإضافة إلى تعدادهم بالديوان، ومعرفة كل قائد - وخاصة العرفاء - تعداد جنوده الذين شهدوا المعركة وعدد خسائره من الجنود في القتال، وأخيرا فإن العريف مسئول عن ترقين أسماء الشهداء من الديوان بعد المعركة، لتتوقف أعطياتهم وتنقل إلى أهليهم الأحياء.
فإذا لم تكن كل هـذه الإجراءات الدقيقة كفيلة بمعرفة تعداد الذين شهدوا المعركة، وتعداد الخسائر بدقة متناهية، فلا نعرف كيف يتم الإحصاء الدقيق!!
وما يقال عن تعداد المقاتلين العرب والمسلمين، يقال عن تعدد المقاتلين من الروم والفرس .
وما يقال عن تعداد خسائر العرب والمسلمين في كل معركة من [ ص: 46 ] المعارك، يقال عن تعداد خسائر الروم والفرس أيضا.
ولكن دقة تعداد العرب والمسلمين أكثر دقة من تعداد الفرس والروم، نظرا لعلاقة القربى بين القادة وجنودهم واتصالهم المباشر بكل شيء.
ومما تقدم، نستطيع أن نتبين بوضوح وجلاء، أن التشكيك في تعداد المقاتلين وخسائرهم من الجانبين، لا يدل إلا على الحقد الأسود أو الجهل المطبق.
وإذا كنا لا نطمع في الحد من حقد الأجنبي اليهودي، أو المنصر الصليبي، أو الجاسوس على العرب والمسلمين، فلا أقل من أن نعيد المغرر بهم من العرب والمسلمين إلى طريق الحق والصواب.