[ ص: 284 ] الفصل الثاني .
أن ما تقدم في حكم حاكمين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على ما حكما لا يحتاج إلى استئناف حكم ثان ؛ قال - في رواية أبي النضر - : ما حكم فيه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجزاء فعلى ما حكموا ؛ لأنهم أعدل من يحكم فيه ، ولو حكموا بخلاف حكمهم فلا يترك حكمهم لقول من بعدهم . ولو أن : جاز أن يقول قاتل الصيد لرجل آخر معه أن احكم معي في ذلك فيكون هو الحاكم وآخر معه . رجلا أصاب صيدا لم يكن فيه عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم
قال - في رواية الشالنجي - : إذا أصاب صيدا : فهو على ما حكم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلما سمي فيه شيء فهو على ذلك وفي الضبع شاة . وقال - في رواية - في الذي يصيب الصيد يتبع ما جاء : قد حكم فيه وفرغ . أبي داود
وقال - في رواية أبي النضر - : ما حكم فيه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 285 ] فلا يحتاج أن يحكم عليه مرة أخرى ؛ وذلك ، ومعلوم أنه لم يقض به على محرم بعينه فكان عاما . لأن النبي -صلى الله عليه وسلم - قضى في الضبع يصيبه المحرم بكبش
وأيضا : فلو لم يقض إلا في قضية خاصة ، فإذا حدثت قضية أخرى فلو قضى فيها بغير ما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكان خطأ ؛ لأن المثل هنا هو من جهة الخلقة والصورة وذلك حكم بالمماثلة بين نوع ونوع ، وأنواع الحيوان لا تختلف نسبة بعضها إلى بعض باختلاف الأعصار والأمصار .
وأيضا : فإن الصحابة لما قضوا في أنواع من الصيد بأمثال معروفة : كان ذلك قضاء في مثل تلك القضايا ؛ لأن ذلك القضاء لا يختلف باختلاف قائل ، وقائل ولا باختلاف الأوقات والأزمنة ، وإذا كان قضاء في نوع تلك القضايا : لم يجز نقضه ولا مخالفته .
فأما ما حكم فيه التابعون ومن بعدهم ....
وما لم يحكم فيه الصحابة ، أو لم يبلغنا حكمهم : فلا بد من استئناف حكم حاكمين ، ويجب أن يكونا عدلين كما قال تعالى : ( يحكم به ذوا عدل منكم ) والمعتبر العدالة الظاهرة ؛ وهو أن لا يعرف... [ ص: 286 ] ولا بد أن يكونا من أهل الخبرة والاجتهاد في معرفة ، وهل يكونا فقيهين ؟ قال أبو بكر : لا بد أن يكونا جميعا من أهل العلم والمعرفة بالمماثلة ... .
ويجوز أن يكون أحدهما هو القاتل للصيد نص عليه ، وكذلك إن كانا جميعا قتلاه ، ذكره القاضي وأصحابه وغيرهم ؛ مثل الشريف أبي جعفر ، وأبي الخطاب - في خلافه - فإن كل واحد من الحكمين ركن في الحكم ، فما جاز في أحدهما جاز في الآخر ؛ وذلك لما روى ، ثنا سفيان بن عيينة مخارق ، عن قال : " خرجنا حجاجا فأوطأ رجل منا - يقال له طارق بن شهاب أربد بن عبد الله - ضبا ففزر [ ص: 287 ] ظهره ، فلقي عمر فأخبره ، فقال له : احكم فيه يا أربد ، قال : أنت خير مني وأعلم ، فقال : إنما آمرك أن تحكم ولم آمرك أن تزكيني ، قال : فيه جدي قد جمع الماء والشجر ، فقال : ذلك فيه " رواه سعيد .
وثنا أبو الأحوص ، ثنا مخارق ، عن طارق ، قال : " خرجنا حجاجا حتى إذا كنا ببعض الطريق أوطأ رجل منا ضبا وهو محرم فقتله ، فأتى الرجل عمر يحكم عليه ، فقال له عمر -رحمه الله - : احكم معي ، فحكما فيه جدي قد جمع الماء والشجر ، ثم قال عمر : بأصبعه ( يحكم به ذوا عدل منكم ) ولا يعرف له مخالف في الصحابة . وأيضا قوله : ( يحكم به ذوا عدل منكم ) يعم القاتل وغيره بخلاف قوله : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) فإن المشهد غير المشهد ؛ لأن الفاعل غير المفعول ، وهنا لم يقل : حكموا فيه ذوي عدل ، وإنما قال : ( يحكم به ) والرجل قد يكون حاكما على نفسه إذا كان الحق لله ، لأنه مؤتمن على حقوق الله ، كما يرجع إليه في تقويم قيمة المثل إذا أراد أن يخرج الطعام ، وفي تقويم عروض التجارة ، والدليل على ذلك : ما احتج به أبو بكر من قوله : ( كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم ) فأمر الله الرجل أن يقوم بالقسط ويشهد لله على نفسه .
قال القاضي وابن عقيل : وهذا إنما يكون إذا قتله خطأ أو عمدا [ ص: 288 ] لمخمصة . فأما إن قتله عمدا : فلا يصح ؛ لأنه فاسق ، بخلاف تقويم عروض التجارة فإن صاحبها يقومها وإن كان فاسقا ؛ لأنه لم ينص على عدالته .
ووجه هذا : أن قتل الصيد من الكبائر ؛ لأن الله توعد عليه بقوله : ( ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام ) ولأن الله سمى محظورات الإحرام فسوقا في قوله : ( فلا رفث ولا فسوق ) لكن هذا يقتضي أنه إذا قتله عمدا وتاب جاز حكمه ، ولم يذكر القاضي وأصحابه في خلافهم هذا الشرط .
وإذا اختلف الحكمان ... .
وإن حكم في قضية واحدة حكمان مختلفان لرجلين ، فهل يكونان مصيبين ؟... .